سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

ليسوا كتلة واحدة!

ذهاب العرب إلى مواجهة حقيقية مع إسرائيل، حول جرائمها في القدس، وفي المسجد الأقصى، لا بديل عن أن يكون ذهاباً عارفاً بأهدافه مُقدماً... قابضاً بقوة على أدواته!
وبمعنى آخر، علينا ألا نذهب وحدنا، وأن يكون في صحبتنا آخرون، وأن يكون اليهود حول العالم، وفي داخل إسرائيل نفسها، في طليعة هؤلاء الآخرين!
ففي وقت من الأوقات عرفنا حركة سياسية في تل أبيب اسمها «السلام الآن»... وهي حركة كانت تعتقد أن السلام بين إسرائيل، وبين جيرانها العرب، ممكن، ولأنه كذلك فلا بد أن يكون الآن، لا غداً، وكانت وقت ظهورها، نهاية الثمانينات من القرن الماضي، تبدو مثل ضوء خافت وسط ظلام يحيط بها من كل اتجاه، لكنها كانت في حاجة إلى دعم كبير من خارج بلدها، أكثر من حاجتها إليه داخله؛ لأن الرهان عليها، وعلى قدرتها على إقناع الجمهور بأفكارها، كان وقفاً على أن تظل تكبر، فتؤثر في دوائر أوسع من دوائر الرأي العام في الدولة الإسرائيلية.
لكن هذا لم يحدث، لأن كل الذين تواصلوا معها من بين العرب، أو حتى دعوا إلى التواصل معها، وجدوا أنفسهم في مواجهة اتهامات تبدأ بأنهم تطبيعيون، وقد تمتد لتصل إلى القول بأنهم خائنون!... ولم يكن ذلك صحيحاً على إطلاقه هكذا في ظني؛ لأن كل واحد انخرط في الدعوة إلى أن يكون للحركة مكان معتبر على أرضها، وفي محيطها، كان يريد للشعوب في المنطقة أن تعيش في سلام، بدلاً من أن تتقاتل، وكان يرى أن الحروب التي عرفتها المنطقة تكفي جداً، وأنه قد آن الأوان لتكون الحرب بين إسرائيل وبين أي دولة عربية، حديثاً من الماضي الذي يجب ألا يعود!
والأمل في هذا لا يزال قائماً، لكنه في حاجة إلى أن يقترن بعمل منا، لأن أي أمل هو في غاية المطاف فكرة مجردة لا تعرف الحياة إلا بجهد يسقيها!
وعندما وقف مئات من المسلمين قبل ستة أيام، يؤدون صلاة الجمعة في مكان عام في العاصمة الأميركية، كان هذا الأمل يبدو واهناً من بعيد، وينتظر عوناً من جانبنا، نحن الراغبين في السلام، يشد عوده ويقويه!
كان المسلمون الذين تجمعوا في واشنطن، قد توافدوا واحداً وراء الآخر، أمام السفارة الإسرائيلية هناك، وكانوا يريدون أن يُظهروا للإدارة الأميركية، وللعالم من ورائها، أن ما ترتكبه الحكومة الإسرائيلية في القدس، وفي المسجد الأقصى، لا ترتضيه حكومة ذات ضمير إنساني في أي من أنحاء الأرض!
ولم تكن القصة أن مئات من المسلمين وقفوا يؤدون فريضة من فرائض الدين عليهم، فما أكثر الذين يدينون بالإسلام في أرجاء الدنيا، ويقفون ليؤدوا الفريضة نفسها، في كل يوم جمعة من كل أسبوع، ولا كانت القصة أنهم وقفوا يقيمون الصلاة في عرض الشارع، فكثيرون مثلهم يفعلون الشيء نفسه، في أكثر من مكان، إذا دار الأسبوع دورته، وجاء يوم الجمعة!
القصة كانت في أنهم كانوا وهُم يؤدون صلاتهم، أمام السفارة الإسرائيلية بالذات، محاطين بمئات أخرى من اليهود الأميركيين الذين أقبلوا من شتى الولايات الأميركية، ليقولوا إن اعتداءات حكومة نتنياهو على مقدسات المسلمين في القدس، أو في المسجد الأقصى، لا يزعج المسلمين وحدهم، لكنه يزعج اليهود من ذوي الضمائر الحية، بالقدر ذاته!
ولم يقف المئات من اليهود أمام السفارة صامتين، لكنهم رفعوا لافتات كتبوا عليها: كل فلسطين يجب أن تعود إلى السيادة الفلسطينية!... كأنهم أرادوا أن يقولوا، بأوضح عبارة، أن كون المرء يهودياً لا يعني بأي حال أنه موافق على ما ترتكبه إسرائيل ضد كل فلسطيني، وضد ما يخص كل مسلم، وكل عربي، في الأرض المحتلة من مقدسات... فليس كل يهودي صهيونياً يؤيد السطو على أرض الغير!
وفي المكان نفسه، وقف الحاخام داود فيلدمان، رئيس منظمة «يهود متحدون ضد الصهيونية» يصرح لوسائل الإعلام بالتالي: إننا هنا، اليوم، لندعم مظاهرات الأقصى أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، لأننا يهود، ولأننا نرى أن كل ما تفعله إسرائيل على مدى عقود من الزمان ضد الفلسطينيين، خاطئ كلياً!
إنهم يهود، ولأنهم كذلك، جاءوا وقالوا ما قالوه على مسمع من العالم... وهذا أهم ما في الموضوع!
والمعنى، أن اليهود أصحاب ديانة سماوية، لا تقر في مقاصدها العليا، أي اعتداء على الآخرين، ولا على أرض هؤلاء الآخرين، ولا على ممتلكاتهم، أو أغراضهم... أما الصهيونية فهي عقيدة سياسية لا ترى شيئاً في الاستيلاء على الأرض، ولا في قتل الأطفال، ولا في هدم البيوت فوق رؤوس أصحابها من أبناء فلسطين!
تل أبيب لا تستقوي بشيء فيما تفعله في القدس، وفي غير القدس، بقدر ما تستقوي باليهود الموجودين في دوائر التأثير في أوروبا، وفي الولايات المتحدة، لكن لافتات اليهود الذين تجمعوا أمام السفارة في العاصمة الأميركية، تقول: إن هؤلاء اليهود الذين تراهن عليهم إسرائيل طول الوقت، ليسوا كتلة واحدة... وكذلك تقول عبارات داود فيلدمان القوية!
ليسوا كتلة واحدة من أول: السلام الآن... وصولاً إلى: يهود متحدون ضد الصهيونية... وما بينهما من حركات يهودية سياسية كانت ولا تزال، لا تجد حرجاً في أن تصطف مع الفلسطينيين في طابور واحد، ومع العرب في الطابور نفسه... ليسوا كتلة واحدة، ولكن الذين يقفون معنا منهم، لن يدافعوا عن القضية أكثر من أصحابها!
إنهم يُظهرون رغبة في مساعدتنا، في كل مناسبة، غير أن المساعدة منهم لن تكون مجدية، إلا إذا ساعدنا نحن أنفسنا أولاً!
يهود واشنطن الذين أحاطوا بالمصلين، نصروا القضية أكثر من بعض أبنائها، وليس أقل من أن نظل نوسع دوائر وجودهم، ولا أقل من أن نأخذهم معنا إلى كل محفل دولي، لعل العالم يرى أننا لسنا وحدنا!