سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

شعبوية في «أصيلة»!

دعا محمد بن عيسى، أمين عام منتدى أصيلة الثقافي الدولي في المغرب، إلى حلقات نقاش استغرقت ثلاثة أيام من أعمال موسم المنتدى هذا العام. وكان العنوان الأشمل طوال الأيام الثلاثة، يبدأ من الشعبوية باعتبارها قضية شاغلة للعالم الآن، أكثر من أي وقت مضى، وكان ينتهي عندها!
وكان تقديري حين دُعيت إلى المشاركة في الحديث حول الموضوع، أن علينا أن نتعامل مع الشعبوية، بالطريقة نفسها التي كان الفيلسوف اليوناني سقراط يتعامل بها مع كافة الأشياء من حوله. لقد كان يحدد معاني الأشياء أولاً، ثم يتحدث عنها مع الآخرين، وكان يخشى عن حق، أن نتصور في أحيان كثيرة، أننا نتكلم عن شيء واحد، بينما نحن في حقيقة الأمر، نتعرض لأشياء مختلفة، بعضها عن بعض، وربما متناقضة!
بهذا المفهوم، ما هي الشعبوية إذن؟! قد يكون علينا أن نتفق على أنها في تعريف شبه جامع، نوع من اللعب على عاطفة الجمهور، أكثر من عقله، نوع من غياب عقل المواطن، أو تغييبه، لا فرق، ثم الاستحواذ على وجدانه، والبدء في العزف عليه طول الوقت!
الشعبوية بهذا المعنى، إذا توافقنا حوله، تظل ظاهرة محلية، بقدر ما هي عالمية، وطنية بقدر ما هي قومية، ضيقة في حدود القطر الواحد، بقدر ما هي ممتدة في أرجاء الأرض!
هي تبدو لي مثل موج البحر، الذي يفيض مرة، وينحسر مرة، يضرب الشاطئ مندفعاً، ويعود لينسحب في صخب، ولكنه أبداً لا يهدأ ولا ينام، إلا إذا هدأ مصدره ونام. الشعبوية هكذا بالضبط؛ لأنها تتبدى في موجات، موجة وراء موجة، مُتنقلة بين الدول، وإن كانت موجتها الأعلى هي تلك التي حملت دونالد ترمب إلى الحكم في يناير (كانون الثاني) من هذا العام!
قبل ترمب كانت تتجلى في أكثر من عاصمة، ومن بعده كذلك، ولكن حالته تبقى فريدة في نوعها، ربما بحكم موقع الولايات المتحدة الأميركية بين الدول، ففي فيينا، مثلاً، تجلت وقت أن دخل مرشح اليمين المتطرف، في سباق انتخابي مع مرشح الخُضر، لولا أنه، أي مرشح اليمين، قد تلقى هزيمته في النهاية، بعد أن كان على وشك أن يفوز. وفي بريطانيا كانت نتيجة الدعوة التي أطلقها ديفيد كاميرون، في الثالث والعشرين من يونيو (حزيران) قبل الماضي، إلى الاستفتاء على خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، نوعاً من الشعبوية، عندما مالت الغالبية ممن شاركوا في الاستفتاء إلى الانكفاء، وفضلت خروج البلاد من الاتحاد! وفي باريس تلقت مارين لوبان هزيمة مؤكدة على يد إيمانويل ماكرون، ولو فازت أمامه، لكان في فوزها إحياء للشعبوية في فرنسا، في أفدح صورها!
ولم تكن هذه هي المرة الأولى للسيدة مارين، فلقد حاولت من قبل وفشلت أيضاً، وكان المعنى في المرتين أن الشعبوية لا تيأس، وأن الذين يراهنون عليها، ويوظفونها، لا ييأسون!
وفي واشنطن لعب المرشح الرئاسي ترمب بأعصاب الولايات المتحدة، بمثل ما عبث بأعصاب العالم في الوقت ذاته، وكان الإعلان عن فوزه، تعبيراً عن أن الشعبوية في نسختها الأميركية قد بلغت ذروة لم تبلغها، في كل الموجات السابقة، وكان هو يواصل دغدغة مشاعر ناخبيه، على مدى أيام حملته الانتخابية، وكانت استطلاعات الرأي تقول إن الناخب يستجيب، وكان ذلك يغري ترمب بالمزيد!
وتقول أي نظرة هادئة إلى الشعبوية كظاهرة، إننا نجد أنفسنا فيها أمام معادلة ثلاثية: جمهور يمارس شعبويته في تجليات مختلفة بعضها عن بعض بالضرورة، ثم سلطة تغذي فيه روح الشعبوية، وأخيراً نخبة مثقفة ومفكرة، عليها أن تباعد بين الطرفين، وأن تُرشّد أداءهما، وأن تنقيه من كل نغمة متطرفة، أو هكذا نفترض فيها، ونتطلع إلى دور لها، وإلى مُهمة لا بد أن تنهض بها إلى جوار الدور!
ولكن هذا لم يحدث في حالة أميركا على وجه التحديد، ولو حدث لربما كان قد أغرى نُخباً أخرى بالاضطلاع بما تنتظره منها مجتمعاتها. فالمرشح ترمب كان دائم الهجوم على نخبة بلده، وكان يقفز فوقها ليتواصل مع جمهوره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعندما قاطع عدد من نجوم هوليوود حفل تنصيبه رئيساً وبادلوه هجوماً بهجوم، رد ليقول إنه ينتظر منهم ماذا سوف يفعلون، وإنه يعيد تذكيرهم بأن وراءه ملايين ممن يعتبرهم جماهيره، ويتعاطى معهم بطريقته الخاصة. وخاطب نجوم هوليوود، ومَنْ في حكمهم بين أفراد النخبة قائلاً: «كم من الجماهير وراءكم أنتم؟! أروني وأشيروا لي»!.
فما العمل؟!
أتصور أن العمل المطلوب، إنما هو منا نحن هنا في منطقتنا العربية؛ لأن الجماهير الأعم في الغرب قادرة دوماً على تصحيح شعبويتها بنفسها، وأولاً بأول، إذا لم تهزمها ابتداء كما حصل مع لوبان، ومع مرشح يمين فيينا، بل ومع رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، في انتخابات الثامن من يونيو من هذه السنة، التي خرجت منها وقد خسرت 13 مقعداً مما كان لحزبها، قبل أن تدعو إلى انتخابات مبكرة!
وذلك كله عائد إلى أننا هناك أمام جمهور متعلم تعليماً صحيحاً، وفي حالة كهذه، لا خوف عليه؛ لأن تعليمه يؤهله لتدارك خطواته باستمرار!
وما عرفناه قبل سنوات على إنه ربيع عربي، كان نوعاً من الشعبوية في كثير من حالاته، إنْ لم يكن فيها كلها، ولو حضر التعليم الجيد في مواجهته، لكانت دول الربيع قد نجت مما تتقلب بين أحداثه هذه الأيام، ومنذ أن هب عليها لا يزال بيننا مَنْ يصمم على تعريفه بأنه ربيع!