خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

هذا اليوم في التاريخ

نفتقد في هذه الأيام زاوية الزميل الراحل نجدة فتحي صفوة، التي كنا نستمتع بها قبل سنوات قليلة في هذه الصحيفة بعنوان «هذا اليوم في التاريخ». وقد خطر لي أن أستذكر حكاية من حكاياته سمعتها منه. روى لي أن الحكومة التونسية راحت تبحث في موسكو عن بناية مناسبة لسفيرها في أيام غورباتشوف. وجدت بناية رهيبة خالية لسنوات. تبين أن بيريا، مسؤول المخابرات السوفياتي كان يسكنها. ارتبط تاريخها بفواجع التعذيب والإرهاب والقتل التي مورست فيها. أصبح القوم يتشاءمون منها فلم يجرؤ أحد، روسي أو أجنبي، على استئجارها أو السكن فيها. يظهر أن السفير التونسي الجديد لم يسمع أي شيء من ذلك أو أنه سمع به فلم يعبأ بذلك، فما جرى فيها كان شيئاً معتاداً عندنا.
هللت السلطات السوفياتية بمقدمه وإقدامه على استئجار الدار المهجورة. أعطوها له بأجر متهاود جداً. انتقل إليها ولكن زوجته الفاضلة بدأت تسمع حكايات التعذيب والقتل التي مورست فيها. ما فتئت حتى أخذت تستيقظ ليلاً فتسمع صراخاً وعويلاً رهيباً موجعاً ينطلق من زوايا البيت المظلمة، تقطعه قهقهات عالية. راحت تروي كل ذلك لزوجها سعادة السفير، السيد أحمد المستيري، وأقسمت أنها في إحدى الليالي ظهرت أمامها فتاة ملتفة بما يشبه الكفن، وراحت تحذرها من البقاء في هذا المبنى. بيد أن السيد المستيري، وكان من المثقفين المتنورين وخريج السوربون، راح يطمئنها بأن ما سمعته ورأته كان مجرد أوهام أوحت بها الحكايات التي سمعتها من الجنايني وخادمة البيت. فالمعتاد عندنا أن نعتبر ما تقوله المرأة نوعاً من الهذيان لا ينبغي للرجل العاقل أن يلتفت إليه.
مرت أسابيع وإذا بطفل الوزير المفوض في السفارة، السيد أحمد عرفة، يسقط من الطابق السادس ويلقى حتفه فوراً. لم تهدأ سورة هذه الفاجعة حتى تلتها فاجعة أخرى، عندما انزلقت سيارة القنصل، شاذلي شاوش فوق أحد جسور موسكو وسقطت في النهر. كان هذا ما يكفي لحرم المستيري أن تضرب الأرض بقدمها، وتصر على زوجها السفير أن ينتقل من هذه البناية المشؤومة. وفي هذه المرة، ساد كلام المرأة على كلام الرجل المثقف. فأخليت البناية دون أن يستطيع سعادة السفير أن يسأل زوجته لماذا يعن لضحايا بيريا أن ينتقموا من التوانسة بالذات عما فعله البلاشفة.
ولكن هذه نقطة أخرى تقع خارج نطاق المنطق النسائي. المهم أن البناية بقيت مرة أخرى خالية لمدة طويلة، حتى جاء سفير جديد هو السيد فتحي زهير. قرر تطهير البناية من أشباح الشيوعية بتلاوة مباركة من القرآن الكريم. وهو ما كان. فلم تسمع زوجة السفير الجديد تلك الصرخات والعويل ولا رأت امرأة مكفنة بكفن أبيض أو أسود.
لم يخطر لي أن أسأل السيد نجدة فتحي صفوة، الدبلوماسي العراقي عما إذا كان هو أيضاً قد تخوف من الانتقال والعيش في هذه البناية المسكونة.