نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

غزة... والاستثمار البائس

في لقاء احتفالي فوق رمال غزة الملتهبة، وتحت شمسها اللاسعة التي لا ترحم، جرى احتفال رعاه السيد العبادي الذي يسميه الغزيون المندوب السامي، وإلى جواره السيد ميلادينوف، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لمتابعة عملية السلام في الشرق الأوسط.
وبعد خطاب طويل للمبعوث القطري، حول ما قدمت قطر لغزة منذ الانقسام وحتى الآن، جرى توقيع عقود بإقامة ثماني بنايات بتكلفة خمسة ملايين دولار.
ما قاله السيد العبادي في الاحتفال كان محفوظاً عن ظهر قلب، والتذكير المتكرر بالدعم القطري لصمود غزة أيضاً صار محفوظاً عن ظهر قلب، واقتضى الأمر أن يرفع بعض نشطاء حماس صورة كبيرة للشيخ تميم تعبيراً عن الشكر والعرفان، غير أن ما قاله السيد العبادي ليس هو المهم في الاحتفال الملتهب، ذلك أن الأهم ما قاله السيد ميلادينوف في خطابه، وبذات القدر من الأهمية ما لم يقل.
فقد أعلن المبعوث الأممي لعملية السلام في زمن اللاسلام، أن غزة الآن تعيش واقعاً لا تصلح فيه الحياة الآدمية، وأنها بعد ثلاث سنوات حتى إذا ما استمر الدعم الراهن، فلن تكون صالحة لا للحياة الآدمية ولا للنبات والحيوان. ودعا إلى مضاعفة الدعم لغزة، كي تواصل الحياة بأقل الشروط الإنسانية. هذا ما قاله ميلادينوف، أما ما لم يقل قد يكون هو الأهم.
إن استثمار مأساة غزة بالصورة التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن، هو جانب مهم من جوانب استمرار المأساة، والخلط بين دعم حقيقي لغزة هي بأمس الحاجة إليه، والدعم الفعال للانقسام وهذا ما أبقاها عشر سنوات مرشحة للازدياد هو كلمة سر المأساة في غزة.
فما العمل إذن ونحن حيال ملايين بني البشر يتقلبون على جمر معضلة لم يعد ينفع معها الدعم الخيري الذي يشبه التنقيط في الحلق، كي يستمر المحتضر على قيد الحياة.
الغزيون الذين لا يزالون يحتفظون بشهامتهم وأخلاقياتهم الرفيعة، يقولون شكراً لمن يقدم لهم ولو زجاجة ماء، إلا أنهم وبعد عشر سنوات من الانقسام أدركوا أن الإسعاف الخيري لا يقدم أكثر من إدامة العذاب، فبلد لا تتجاوز مساحته مساحة حي في مدينة متوسطة، وكثافته السكانية من أعلى الكثافات في العالم، بات بحاجة إلى اقتلاع الشوكة وليس مداراتها، واقتلاع الشوكة يتطلب جهدين أساسيين لم يعملا حتى الآن؛ الأول فلسطيني، وهو التخلي عن آفة الصراع على السلطة، والتضحية بمغانمها البائسة لمصلحة توجه جدي لإنهاء الانقسام، بما يتطلبه من تنازلات متبادلة بعيداً عن المعادلة العبثية بأن طرفاً قادر على ابتلاع الطرف الآخر وإلغائه.
والثاني جهدٌ من قبل مجلس إدارة المأساة، أو المستثمرين لها تحت عناوين قومية أو أخلاقية أو كفاحية، فلم تعد غزة التي يقول مندوب الأمم المتحدة بأنها غير صالحة للحياة، مجال استثمار سياسي أو دعائي، فلو قرن الذين يقدمون المساعدات على مدى السنوات العشر للانقسام، ما يقدمونه بشروط لإنهاء الانقسام، لما استمرت هذه الكارثة عقداً، بل ربما انتهى الأمر مع أول شحنة مساعدات وأول مبادرة سياسية جدية، ولكن ما الحيلة وغزة تصلح للاستثمار وإثبات الوجود السياسي والنفوذ «الساذج».
أين ذهب كل الدعم وإلى أين سيوصل غزة؟ الذي أجاب عن هذا السؤال صراحة هو السيد ميلادينوف وقبله كل أهل غزة.