طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الموجي وعبد الوهاب و«الكرافت»!

مرت قبل يومين 22 عاماً على رحيل موسيقار موهوب واستثنائي في تاريخنا الغنائي... إنه محمد الموجي، الذي جاء من قريته «بيلا» في محافظة كفر الشيخ إلى القاهرة، من أجل تحقيق شيء واحد فقط، وهو أن يصبح مطرباً مثل أستاذه ومثله الأعلى محمد عبد الوهاب، إلا أنه بمجرد أن استمع إلى صوت عبد الحليم يغني من تلحين كمال الطويل قصيدة (بعد عامين التقينا ها هنا) قال هذا هو صوتي، وقرر أن يكتفي بالتلحين له، وعندما مات بكاه ناعياً: «قيثارتي مُنيت».
أغلب جيل الموجي درسوا أكاديمياً، بمن فيهم عبد الحليم الذي تخرج في قسم الآلات وليس الأصوات كما يعتقد البعض، بينما الموجي كان يلتقط المبادئ اللحنية شفاهة من كبار عازفي وملحني ذلك الزمن.
ظل وحتى اقتراب مشواره إلى شاطئ النهاية يلحن بالفطرة، وينتقل من مقام إلى مقام بالسليقة، الفرقة الموسيقية تعودت أن تضبط أوتارها على المقام أثناء البروفات، ولأن الموجي لم يكن يستطيع تحديد اسم المقام، فكان يلجأ لتلك الحيلة، يبدأ في عزف اللحن على العود، يتجاهل تماما الإجابة عن سؤال الفرقة، وبالطبع بمجرد أن ينصتوا لبدايات اللحن يكتشفوا المقام، وهنا يعلو صوت محمد الموجي معاتباً: «أُمال أنا كنت بقول إيه من الصبح».
الموجي كان يصحو كل يوم ليضع نغمة، أو يسجل لحناً على العود، وهو مثل نجيب محفوظ الذي كان يبدأ يومياً في الخامسة صباحاً رحلته مع الكتابة... الموجي كان أيضاً يضبط ساعتيه البيولوجية والإبداعية يومياً على تلك الومضات.
ورغم ذلك تكتشف أنه من الممكن في أي لحظة أن يأتي له الإلهام، مثلاً أثناء حرب 56 أسمعه المسؤول في الإذاعة، كلمات أغنية «يا أغلي اسم في الوجود»، واتفقا على أن يسجلها مساء اليوم التالي، وأثناء هبوط الموجي سلم الإذاعة المصرية، جاءه الخاطر وأكمل اللحن وصعد مجدداً السلم، وعلى الفور تواصلوا مع المطربة نجاح سلام، أمد الله في عمرها، للتسجيل في اللحظة نفسها.
تميز الموجي بالغزارة والابتكار اللحظي... أثناء تسجيل أغنية نجاة «أما براوة» كان هناك صوت أراد الموجي تحقيقه لم تستطع الآلات مثل السيكسيلفون أو الصاجات التعبير عنه. على الفور طلب زجاجتي مياه غازية فارغتين ومفتاحا من الحديد، وجلس على أرض الاستوديو، وبدأ يضرب الزجاجتين لإحداث الصوت كما أراده.
كان الموجي هو أول من فكرت أم كلثوم في التعامل معه بعد الكبار أمثال السنباطي، وزكريا أحمد، والقصبجي، فلحن لها «أنشودة الجلاء»، وإن كانت العلاقات بينهما شابها في بعض اللحظات شيء من التوتر، حتى إنها أقامت ضده دعوى قضائية؛ لأنه لم يسلم لها في الموعد المتفق عليه لحن «للصبر حدود»، حيث قال للقاضي أثناء المحاكمة: «لست أنا المذنب، ولكن الإلهام... أرجو أن تُصدر المحكمة قراراً بإيداعه السجن!!».
أتذكر أن الموجي قال لي إنه لحن لعبد الوهاب أغنية «أحبك وأنت فاكرني»، فلقد أسمعها لعبد الوهاب ليسترشد برأيه على العود، بعدها فوجي بأن عبد الوهاب يقدم اللحن نفسه بكلمات أخرى، وعندما عاتبه، أجابه: «عندما يستعير أب كرافت من ابنه هل هذا يعتبر جريمة؟»، واقتنع الموجي بأن لا بأس على الإطلاق في أن يهدي الابن لأبيه كرافت، أو حتى بدلة «سموكن» بلوازمها، وظل الموجي حريصاً على أن يُسمع عبد الوهاب ألحانه قبل أن ترى النور، مؤكداً أنه أبوه في الموسيقي!!