سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العقد «الآيفوني»

ثمة سرّ وراء عبقرية «آيفون» وذاك الجنون العصبي الذي كان ينتاب ستيف جوبز أثناء رحلة البحث عن ابتكار الجهاز الذي وصفته «وول ستريت جورنال» بأنه «الأكثر نجاحاً على مدار التاريخ».
قل ما شئت عن «العجلة» التي تعتبر أم الاختراعات ومحرك الحضارات، لكن يبقى «آيفون» منتصراً، متفوقاً، وأشد خطورة في مفاعيله وتردداته على سلوك البشرية، التي لم تنته بعد. هذا رأي لم يعد من جدال حوله. فالرجل الذي قضم تفاحة المعرفة ولونها بقوس قزح، عرف، في لحظة مفصلية، أنه في سباق مستميت مع شركة «غوغل»، لاختراع الهاتف الذكي. قيل الكثير حينها عن شراسة المنافسة، وأدرك صاحب الرؤية أن عليه أن يحدد الهدف، في مواجهة أكبر عملاق محرك بحث وتقص. أوقف كل شيء، تنازل عن شتى المشروعات، أحرق مراكبه وقرر ركوب مغامرة محفوفة بالنار. لحظة كانت «غوغل» تسعى في اتجاهات عدة، لم يعد في ذهن جوبز إلا فكرة واحدة، ينجو بها أو يغرق ويذهب إلى الجحيم، هي: إعادة ابتكار الهاتف بصيغة جديدة.
كان التحدي بالنسبة له بعد اختراع الكومبيوتر الشخصي، كيف يمكن لهذا الجهاز أن يصغر ويتضاءل كما في الأفلام الخيالية الهوليوودية، حتى تستطيع أن تقبض عليه بكفك، وتضعه في جيبك. ومتى شئت تخرجه، تلمسه بطرف أصبعك فقط، فإذا به ينقلك إلى عوالم لا حصر لها: أفلام، أغنيات، صحف، ألعاب، خرائط، صور، ذكريات، هذا فضلا عن تواصلك مع كل فرد على وجه البسيطة. تقليص الحجم وحده كافٍ، لأن يبدّل من الوظيفة كلياً. كنا نظن ونحن نستمع إلى الأغنيات على جهاز «آيبود» أننا مع عالم موسيقي خالص وأن صانعيه هم مجرد عشاق مرح وربح، وها نحن نكتشف أن هذا القرص الذي كنا نحركه بإصبعنا لنختار الأغنية التي نحب هو في عيون جوبز كان قرص الهاتف التقليدي بأرقامه ودورته التي تسمح لنا بالاتصال بالآخرين.
كان «آيبود» الذي جهد المهندسان آندي غريتيون واللبناني طوني فاضل لابتكاره، بروفة أولية لهاتف الآيفون الذي كان يحلم بإنجازه فريق عمل «آبل». هذا القرص الأسطواني العتيق لم يكن جوبز يريد له أن يبقى على قيد الحياة. اعتبر «آيبود» اختراعاً سيئاً. بقيت عينه على سحر لمسة الإصبع حين تكتسب قدرة على إعطاء أوامرها التي لا ترد، وهنا كان الاختبار الأصعب الذي احتاج إلى أبحاث مضنية ومراكمة اختراعات وتعديلها وتجريبها والسهر عليها.
ما كاد ستيف جوبز يطلق هاتفه العبقري في حفله الشهير في لحظة وصفها أحد مساعديه بأنها «مرعبة» لشدة ما كانت مخاطر الإخفاق كثيرة، وإمكانيات التعثر شديدة، حتى بدأ السرطان يدب في جسده. وكأنما ولد «آيفون» وتغذى من روح وجسد جوبز. كانت المهمة منهكة حقاً. توفي جوبز بعد رحلة 8 سنوات مع المرض، وأبى أن يسلم الروح قبل إطلاق «آيفون 4» ليرحل في اليوم التالي.
راهن كثيرون على أن «آبل» ستذهب مع صاحبها، وأنها معه بلغت أوجها، لكن يبدو كما أن الهاوية التي نعيشها نحن العرب سحيقة بحيث لا قرار لها ولا قاع، كذلك النبوغ يستطيع أن يحلق إلى قمم شاهقة يصعب التكهن بنهاياتها المتطاولة المديدة. رؤية ستيف جوبز الثاقبة هي الوحي الذي منه لا تزال شركته تستمد دفعها. «الأفضل من آبل لم يأت بعد»، ويعتقد بعضهم أن العقد المقبل، سيكون تحولاً لا يقل جذرية عن الذي سبقه. قد يصبح الآيفون جزءاً من الجسم، زراً في جسد أو قميص، لعله يصبح نظارة، أو حاسة إضافية تضاف إلى الخمس التقليدية التي نعرفها.
آبل التي تشتري شركة إضافية كل ثلاثة أو أربعة أسابيع، لمساعدتها في تعميق أبحاثها، ماضية في اكتشافات الواقع المعزز وتقنيات الأبعاد الثلاثية، وتطوير برنامج «سيري» الذي ينفذ اليوم أوامرك الصوتية ببدائية شديدة، ليصبح أشبه بالمارد الذي يخرج من القمقم.
يذكّر المفكر البلغاري الصاعد إيفان كراستيف بأنه في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وأميركا وأوروبا في ذروتهما، كان السؤال الكبير هو «كيف سيغير الغرب العالم؟» بعد مرور عقدين فقط، أصبح الغرب هو المشغول بمعرفة أي تحولات سيعيشها بسبب ما يحدث خارج حدود دوله؟ وبعد الموجة الأميركية الهائلة التي جعلت الإنجليزية لغة المعمورة والمؤثر الأكبر على الألسن والحضارات، اكتشف الأميركيون أن الآخرين يعرفون كل شيء عنهم تقريباً، بينما هم لا يعرفون سوى النذر القليل عن باقي الأمم. وهو ما يذكر بالصينيين الذين كانوا يعتبرون في فترة ما، أن تعليم لغتهم بمثابة كشف لأسرارهم وطرق تفكيرهم، ويفضلون أن تبقى حكراً عليهم.
لكن الصينية خرجت من كهفها. و«آبل» أعلنت عن بيع الهاتف رقم مليار من «آيفون» في عيده العاشر، وكأنما واحد من كل سبعة أشخاص من سكان الكوكب اقتنى هذا الجهاز الخرافي الذي منه تناسلت هواتف ذكية أخرى كثيرة، لكن أياً منها لم يبلغ رهافته ورقته ومتانته التقنية. من المهندس إلى الاستراتيجي والشاعر والمصمم والرسام، لم تغب مهنة إلا واستدعى أصحابها جوبز ليشاركوا في اختراع آلة العصر. وكان له ما أراد. تفلت الاختراعات الكبيرة من أيدي صانعيها وتتجاوزهم، مهما كانت أخيلتهم مجنحة، وآيفون غداً قد لا يكون، سوى طفل مشاكس، في مسار الإنسانية التكنولوجي الحافل.