سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

سلطان الجماهير

لم يعد مهماً أن يكون أغنى روائي في العالم يعتاش من كتبه، هو الذي يدبّج نصوصه، ويحرك أبطاله، ويقرر مصائرهم، صار بمقدوره أن يوظف جيشاً من المساعدين، يكتبون وفق تعليماته وتصوراته، وما عليه في النهاية سوى أن يمهر المؤلّف باسمه، ويوزعه، وتنهال عليه الملايين حلالاً زلالاً. وقراء الروائي جيمس باترسون الذي ترجم إلى 40 لغة يعرفون أن رواياته تفبرك في محترف يضم ما يزيد على عشرين كاتباً، وما يلتهمونه ليس من بنات أفكاره وحده. هو نفسه يعلل ذلك بالقول: إن تفكير عدة أشخاص يأتي بنتيجة أفضل من مخيلة شخص واحد. ومع ذلك، فهو منذ ما يقارب عقداً ونصف العقد يكاد لا يغادر لائحة أكثر الكتب رواجاً في أميركا، ودخل «غينيس» مسجلاً مبيع مليون نسخة من كتاب واحد، ومن ثم تجاوز نفسه وباع ثلاثة ملايين من كتاب آخر. السرّ وراء هذا النهم الغريب لسلاسل باترسون الشعبية، بحسب ما يقول، أنه يعرف تماماً ما يجذب القارئ، وأي بدايات تشدّه، بعد أن استفاد من خبرته الطويلة في مجال العمل بالإعلانات.
باترسون السبعيني لم يتعلم استخدام الكومبيوتر، لكنه فهم العصر أسرع من كثيرين آخرين، حين أدرك أن سكان المعمورة مجرد زبائن، وعليه أن يرضي طلباتهم، كما يفعل أي بائع لتصريف بضاعته. ومع أن أحلام مستغانمي، ليس لها خبرة باترسون في مجال الدعاية، غير أنها بحدسها وعفويتها التقطت الإشارات، وكتبت ما يروق الفتيات، وتمكنت من أن تبيع كما لم يفعل نزار قباني أو حتى محمود درويش. وما ينطبق على الكتب يجوز على المسلسلات. ولعلها ليست صدفة أن تتربع أعمال على الشاشات التلفزيونية اللبنانية في رمضان جلّها يتعاطف مع الجاني، على رأسها «وين كنتي» الذي يحكي لنا منذ الموسم الفائت قصة الشاب الذي أغرم بزوجة أبيه الشابة، وبادلته الوله. وبقي المسلسل يقنعنا بأن هذا الوالد من السوء، بحيث يستحق أن يطعن من كل من حوله ولا تصيبنا به شفقة ولا رحمة، حتى بعد أن يغادر الحياة. مسلسل ثان يكفي أن تعرف أن عنوانه «لآخر نفس» كي تتابعه، خصوصاً أنه عن زوجة تخون زوجها مع رجل متزوج هو الآخر نصب لها فخاً، ووقعت به مستمتعة مدافعة عن أحاسيسها. ولا تتوقف الحوارات عن إقناعنا بأن على الإنسان أن ينساق وراء مشاعر الحب حين تباغته، حتى لو أحرق أولاده ودمّر أقرب الناس إليه. هكذا، تتحول الخيانة إلى مبدأ سامٍ، والطعن في الظهر إلى فضيلة تجد من يدافع عنها كل ليلة. أما القصة الثالثة، في مسلسل «الهيبة»، فالمتفرج على موعد مع عصابات خارجة على القانون، تفرض منطقها على أهل قريتها. ويتفوق «جبل» على كل المهربين الآخرين لأنه شهم وعلى خلق، لا يملك من يتعرف إليه سوى أن يسحر بقيمه وصدقه ونبل سلوكه. وفي الحالات الثلاث، اختار الجمهور أو تم إغراؤه بنماذج لها سلوك يفترض أنه منفّر، إن لم يكن مداناً. لكن على طريقة باترسون، حين تعرف سلفاً ما يريده الناس، بإمكانك أن تجد المصائد التي تلتقطهم بواسطتها.
والخطورة إلى تصاعد، مع تطوير تقنيات وأنظمة ستتمكن من رصد الأمزجة والسلوكيات كل ثانية، بما يسمح بمزيد من التلاعب بعقول الجماهير الغفيرة، وقولبة أهوائهم. «نيت فلكس»، المنصة التي تجمع مائة مليون مشترك من 190 دولة، ليست سوى مثال صغير. الموقع بمثابة محطة تلفزيونية ضخمة، تجد عليها آخر الأفلام والمسلسلات والوثائقيات والستاند أب كوميدي، ويمكنك أن تتفرج على ما تريد منها ساعة تشاء. هكذا، حلّت مشكلة البرمجة التي تفرض أوقاتها على الجميع. وبات بمقدور الموقع بالمقابل رصد ما يفضله الناس في الصباح، وتبين انه كل ما يضحك، وعند تناول وجبة الغداء، ويبدو أنه المسلسلات الدرامية. وفي الليل، يميل البشر إلى الترفيه. وهناك إحصاءات دقيقة لكل شعب، وهذا كله يسهّل على الراغبين في الربح أن يستخدموا «داتا» الأمزجة التي يجمعونها، ليصنعوا منها وصفات مبتكرة تقدم في كتب أو أغاني، وربما شعارات سياسية، أو حتى برامج انتخابية. الحواجز تزول بين المنتجات، حتى أن باترسون بدأ ينتج كتباً صغيرة ليعرضها مع الدببة والحلويات والمسليات، لتباع كما قطع الشوكولاته التي تذوب في الفم، وتختفي بلحظات، لكن المفاعيل لا تتبخر في كل الحالات، وإن بدا الأمر كذلك. حاولت سفيرتنا إلى النجوم دخول السباق، وفق قاعدة «ما يطلبه الجمهور»، وأخفقت. أغنيتها «لمين» التي أطلقتها بعد 7 سنوات غياب، شاهدها عشاقها على وسائل التواصل، وموقع «أنغامي»، لا على التلفزيونات، وكان بالنتيجة أن نشرت مطربة ناشئة مثل ميريام فارس معلنة فوزها على فيروز في عدد المشاهدين. مقارنة حمقاء، لا تقيس سوى اللحظة، وتتجاهل تاريخ امرأة تحولت إلى أسطورة فنية على مدى العالم العربي بأسره.
كان رؤيوياً أمبرتو إيكو منذ السبعينات، حين كتب عن الأبطال الخارقين مثل «سوبرمان» و«باتمان» في الكتب الشعبية، الذين تتغير مساراتهم عبر السنوات، تبعاً لرغبات الناس، وما يلائم نزعاتهم الآنية. هذا ليس أدباً مكتوباً بعناية لتثقيف النفس، وإنما لإرضاء القارئ. وفرق بين الأدب الكبير وكتابات التسالي. كما أن ثمة فرقاً شاسعاً بين زمن كانت فيه النخب تتصدر الشاشات، وتقدّم كبوصلة لأممها وشعوبها، ووقت صار فيه أي شخص عادي، من دون مؤهلات أحياناً، يتحول إلى نموذج يحتذى، لأنه خضع للترويج والتلميع. وعلى غرار هؤلاء، يصنع نجوم في الاقتصاد والأعمال والسياسة. ثمة من لا يزال يتساءل عن وصول إيمانويل ماكرون للرئاسة الفرنسية بسرعة صاروخية، وقريباً أسماء كثيرة أخرى.