د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

سيولة البنوك لليوم الأسود

رغم مرور عقد من الزمان على شرارة الأزمة المالية؛ فإن هذه الأزمة لا تزال هاجسا مخيفا للحكومات والمؤسسات المالية حول العالم. سببت الأزمة انهيارا في أوساط القطاعات المالية والعقارية حول العالم، وألقت بظلالها على الشركات حول العالم، مؤثرة على اقتصادات دول كثيرة، وتجاوزتهم لتمس حياة الأفراد بشكل مؤثر وواضح. كان واضحا منذ بداية الأزمة أن الملوم الأول هو النظام المالي في العالم الذي يفرض الأنظمة والقوانين على البنوك والمؤسسات المالية. لم تنس الحكومات بعد دورها الفعال في دعم البنوك لتجاوز تلكم الأزمة، ولم تألُ جهدا بتذكير البنوك سنة تلو الأخرى بما حدث قبل عقد من الزمان، فارضة عليها القيود الصارمة والمراجعات السنوية لالتزام البنوك بما فرض عليها من أنظمة جديدة.
كان انهيار بنك «ليمان براذرز» البداية الواضحة للأزمة المالية العالمية، حينها كان واضحا إسراف البنوك في إعطاء القروض للأفراد وللمستثمرين، ووصل معدل الإقراض إلى مستويات خطيرة في ذلك الوقت تجاوزت قدرات البنوك بأضعاف مضاعفة، وحين حدثت الأزمة وبدأ تسريح الموظفين من أعمالهم، بدأت البنوك في استعادة عقارات المسرّحين من أعمالهم الذين لم يعودوا يستطيعون الوفاء بسداد ما عليهم من قروض، ومع الزيادة المتسارعة لمعدلات البطالة، كان على البنوك استعادة كثير من العقارات، مما سبب زيادة العرض على الطلب في العقارات، وهو ما هوى بأسعار العقار في الحضيض، وزادت معاناة البنوك التي انخفضت موجوداتها بشكل مفاجئ مع انخفاض سعر العقار، ولم تنجح المؤسسات المالية في النهوض من الأزمة إلا بعد ضخ السيولة من الحكومات العالمية.
ولأنها اتعظت بعد حماقة البنوك في تلك الأزمة، فقد فرضت الحكومة الفيدرالية الأميركية في عام 2010 اختبارا سنويا للبنوك الأميركية سمته «اختبار الضغط». في هذا الاختبار، تقوم الحكومة بافتراض حالة تخيلية لأزمة مالية على البنوك، وتقوم بالتأكد من إمكانية البنوك لتجاوز هذه الأزمة، ولأن البطالة وأسعار العقار هما أهم عاملين في الأزمة المالية، فقد افترضت الحكومة الفيدرالية هذا العام أن سعر العقار انخفض بنسبة 35 في المائة، وأن معدلات البطالة زادت إلى ضعف ما هي عليه الآن، وتمكن أكبر 34 بنكا أميركيا من تجاوز هذا الاختبار الأسبوع الماضي، وهو ما أعلنته الحكومة على الملأ لزيادة الثقة بالمؤسسات المالية الأميركية. ويعتمد النجاح في هذا الاختبار على توفر سيولة احتياطية لدى البنوك. إضافة إلى ذلك، فقد فرضت الحكومة على البنوك تقديمَ خطة سنوية بشكل رسمي، للنجاح في الجزء الثاني من هذا الاختبار، وذلك للتأكد من التزام البنوك بهذه الخطة العام المقبل.
في حين ترى الحكومة الفيدرالية أن احتياطي السيولة لدى البنوك هو القرش الأبيض لأزمة مالية محتملة، وأن هذه السيولة عامل أمان مهم لجعل البنوك أكثر استقرارا في حال حدوث أي انهيار مالي، تستمر البنوك في التذمر من هذه القيود، مبررة تذمرها بأنها تستطيع الاستفادة من هذه السيولة الموجودة بإعطائها على هيئة قروض قصيرة المدى لأفراد أو لمؤسسات صغيرة. وهذا هو التفكير السائد لدى البنوك خاصة ورجال الأعمال عامة، فوجود سيولة مالية دون استثمار هو خسارة من دون شك، وهو ما يسمى بـ«تكلفة الفرصة البديلة» في الأوساط الاقتصادية والمالية. واصطدم تذمر البنوك بصرامة الحكومة في هذا الشأن، والواقع أن الحكومة ملزمة بهذا النوع من الإجراءات؛ فالجميع رأى ما يفعله مستثمرو البنوك حين يفعلون ما يحلو لهم، والحكومة بفرضها هذه الإجراءات تحمي نفسها على المستوى الأول بتفاديها أي احتياج للبنوك في المستقبل لضخ السيولة.
فرض قوانين الالتزام من الحكومات، وتحديثها عاماً بعد عام، يؤكد عدم كمالية النظام المالي العالمي، فلا يزال النظام المالي يحتاج لكثير من التعديلات بحسب تغير الاحتياجات الاقتصادية، وقد يظن البعض أن النظام المالي الحالي متكامل بشكل كافٍ، وقد كان هذا ما يظنه البعض قبل الانهيار الاقتصادي في ثلاثينات القرن الماضي، وقبل عقد من الزمان أيضا. يعتمد النظام المالي على نظريات وفرضيات ثبت صحة بعضها بحكم التجربة، وثبت خطأ البعض الآخر بحكم الكوارث التي تسببت فيها. ويشكل السلوك البشري والطمع في مضاعفة المكاسب عنصرا رئيسيا في هذه الكوارث، فحين تكون السوق مستقرة، يتنازل كثيرون عن الالتزام باللوائح القانونية المالية، وبعد أن حدثت الكارثة، زادت أهمية إدارات الالتزام في المؤسسات المالية وفي البنوك المركزية، وأصبحت عنصرا مهما في استقرار السوق المالية لتأكيد التزام البنوك باللوائح المقررة. إلا أن التاريخ يؤكد أن الدراسات والتعمق في تطوير النظام المالي لا يزال مهما، وأن كثرة الأخطاء الحادثة لم تزدها إلا أهمية. فهل تقوم البنوك باستحداث ودعم الأبحاث لتطوير مؤسساتها المالية لتكون أكثر استقرارا، أم سيبقى هذا الدور للحكومات والبنوك المركزية؟