سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صاحب المكتبة... لا صاحب الكتاب

في روايته «دفاتر دون ريغوبيرتو» يطل ماريو بارغاس يوسا (نوبل 2010) على الكتاب من منظار مفاجئ، أو معاكس تماماً. فالناس تعشق الكتب، بل تموت فيها موتاً حقيقياً، كما حدث للجاحظ. لكن بطل يوسا له مشاعر أخرى حيال الكتاب. إنه يطلب من مهندس منزله الجديد أن يبني المكتبة (4 آلاف كتاب) فوق موقد. أو محرقة. ليس من أجل التدفئة، بل من أجل أن يرمي فيها كل كتاب إضافي.
كما أن الأكاديمية الفرنسية لا تقبل عضواً جديداً إلا بعد وفاة عضو سابق، لن يضيف دون ريغوبيرتو كتاباً جديداً إلا بعد إحراق كتاب آخر. هل هو الملل من عمر أمضي في القراءة؟ ربما. ولكنه أيضا طريقة من طرق النقد وإبداء الرأي. إننا نهوى الكتب، لكن ليس كل الكتب. ونحب الكتاب، لكن ليس جميع الكتّاب. حتى المؤلفون، يحبون كتاباً أكثر من آخر. وعندما يقولون إن المؤلفات مثل الأبناء، لا تفريق في محبتها، فهذا غالباً كذب. لأن الأب أيضا يضعف لابن أكثر من غيره، وكذلك حال المؤلف. وعلاقة المؤلف بكتبه مثل علاقة الأب بأبنائه، لأن أشبه شيء بالأبوة هو التأليف. ومعظم الكتّاب أعطوا مؤلفاتهم من الوقت أكثر مما أعطوا أبناءهم. وسخر آرثر كوستلر من إرنست همنغواي عندما رآه يمسك يد ابنه، فقال له «بأي يد سوف تكتب بعد اليوم»؟
الكتاب «عالم». ونحن لا نقيم علاقتنا فقط معه، بل مع بائعه ومؤلفه. والكثيرون من الناس حول الأرض يتذكرون المكتبات التي ألِفوها كما يتذكرون قراهم أو مدارسهم أو مقاهيهم. ومنذ سنوات صدر كتاب بعنوان «المكتبة التي أشتري منها»، المؤسف فيه أنه محصور بأقلام كتاب أميركيين. وخطر لي أكثر من مرة أن أقدم عرضاً له، فوجدت عناوينه بعيدة عن عالمنا. لكن الشيء المشترك فيه مع بقية قراء وكتّاب العالم، أن «بائع الكتب» مهنة، أو غواية، أو هواية، إلى انقراض في كل مكان.
فصاحب المكتبة تقليدياً هو جزء من المؤلف ودار النشر. إذا احترمته واحترمت ثقافته، احترمت خياره. هو ليس بائعاً بل صديق. وفي حالات عدة هو أكثر اطلاعاً منك، إضافة إلى معرفته بذوقك. عندما انتقلت المكتبة إلى «المول» بقي هو في مكانه. أو أغلقه. وفي «المول»، أنت أمام موظف لا يعرف شيئاً عنك، ويعرف القليل عن الكتب التي يعرضها. وهو في مهنة مؤقتة لا تعنيه كثيراً، فلن يمضي فيها حياته، وقد يتركها غداً إلى موقع آخر في «المول». إنه نقيض كلي لصاحب المكتبة الذي تعرفه ويعرفك مذ كان كلاكما شاباً. وقامت بينكما صداقة قوامها دائماً طرف ثالث، لا يمكن اعتباره سلعة، برغم أن له ثمناً وكلفة.
إلى اللقاء..