دعونا لا نبالغ كثيراً في تبسيط الأمور. ولكنَّ ثمة واقعاً بيِّناً أمامنا لا يحتمل شيئاً سوى التبسيط: كل دولة عربية تجاوزت حدودها للتدخل وراء حدود الآخرين، تحولت أرضها إلى ساحة لصراعات الأمم. قطر آخر الأمثلة وليست أولها. ولا نعرف من هو الأول بالتحديد. ربما كان العراق، الذي أراد أن يحتل الكويت، وأن يذل إيران، وأن يعزل مصر، وأن يؤدب الفلسطينيين، وأن يقلب الحكم في موريتانيا، وأن يخوض الحرب الأهلية في لبنان.
وربما كان سوريا، التي أرادت القبض على القرار الفلسطيني، ومعاملة لبنان مثل مزرعة، ورئيس لبنان مثل عريف في الشرطة البلدية، ومعاملة رئيس مصر مثل تلميذ روضة قومية عند بشار الأسد، ومعاملة العراق البعثي مثل عدو. وربما كان منظمة التحرير التي عاملت العربي طوال عقدين مثل خائن في حاجة إلى إفادة قومية. وربما ليبيا، التي طاف قائدها الملهم على كل دولة يلقّنها معاني الكرامة والوحدة.
تلك هي الدول والنماذج التي سماها محمد الرميحي «العابرة للحدود». لم تحاول حل شؤونها، بل قضايا غيرها. لم تقبل بواقعها وحجمها، بل أرادت حجم سواها. عندما قرأت أن قطر تعاني أزمة غذائية، أول ما خط لي، ماذا لو أنها صرفت 500 مليون دولار أسبوعياً على الأمن الغذائي بدل دورة الأولمبياد التي ستتحول مبانيها إلى - لا شيء - فور انتهائها! جميع الدول عابرة الحدود تحولت إلى ساحات بائسة لجميع العابرين إليها.
لا نريد المبالغة في التبسيط. لكن كل هذه الأمثلة تؤكد أن الدول تكبر بنفسها، لا بسواها. وتعتز بإنجازاتها الداخلية، لا بانتصاراتها الخارجية. لم يفد إذلال لبنان أي شيء في عز سوريا. ولا أفاد خطف الكويت شيئاً في مجد العراق، ولا زادت برامج «الجزيرة» في حجم قطر. ولا أقامت مغامرات القذافي وأمواله دولة في ليبيا، يورثها إلى الليبيين.
جميع عابري الحدود يعانون اليوم داخل حدودهم. لم يصدِّروا نماذج اجتماعية اقتصادية إدارية تقلَّد، بل أرسلوا الجيوش وغذوا الميليشيات والفلتان والخوات، وفتحوا أبواب السجون أمام المجرمين، وها هم يرتعون الآن في ديارهم، ويفككون أواصر الدولة، وينخرون أسس المجتمعات.
لم يقبل القذافي بأن يكون أقل من «صاحب النظرية الثالثة» بديلة الاشتراكية والرأسمالية، وقرنين من دراسات كبار العلماء. ولم يقبل العراق بأقل من احتلال بلد بكامله. ولم تقبل سوريا بأقل من أن يحكم ضابط برتبة عميد، الدولة اللبنانية. «الشعب العظيم» و«النهر العظيم» و«الجماهيرية العظمى». مرحلة انتهت إلى حال غير عظيم على الإطلاق. عابرو الحدود لا يريدون اليوم أكثر من استعادة حدودهم، الحسيّة والمعنوية.
8:2 دقيقه
TT
للحدود حدود
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة