راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

رؤية بريطانية جديدة لمكافحة التطرف

السؤال المطروح وبعد أن انتهت الانتخابات البريطانية الكارثية على المحافظين هو: متى ستضع السلطات استراتيجية استباقية حازمة لمواجهة الخطر الكامن في البيئات الحاضنة للإرهاب في بريطانيا، ومتى تبدأ عملياً مواجهة الخطر المتفاقم والمتدرّج من التفجير إلى الطعن والدهس، ومتى تتصرف على أساس أن الإرهابيين ينامون في داخل البيت ويتحركون في أي لحظة؟
رئيسة الوزراء تيريزا ماي قالت بعد عملية جسر لندن إن وكالات الأمن والشرطة تمكنت من وقف خمسة اعتداءات في الأسابيع الأخيرة، لكن شبكة «بي بي سي» كانت تذيع تقريراً عن أن الاستخبارات البريطانية، تتابع حالياً خيوط ما يقرب من 500 مخطط لعمليات محتملة، وهذا يعني أن بريطانيا تواجه أسوأ تهديد منذ السابع من يوليو (تموز) عام 2005 عندما قتل 56 شخصاً وأصيب 700 في ثلاث هجمات إرهابية على محطات مترو الأنفاق.
الآن بعد تصاعد هذه العمليات الوحشية وقفت ماي لتعلن: «حان الوقت كي نقول طفح الكيل، ولا يجوز أن يستمر الوضع على ما هو عليه، لقد تسامحنا أكثر مما ينبغي حيال التطرف في بلدنا، وعلى البريطانيين أن يكونوا أكثر قوة في استئصال شأفته في القطاع العام والمجتمع الأوسع».
لهذا ليس من المبالغة القول إن الكيل تأخر كثيراً قبل أن يطفح، في وجه التطرف الذي ينمو في أحضان بريطانيا، وتحديداً داخل تلك الفجوة الخطيرة والحائرة والمحيّرة، بين الحرص على قواعد الحرية وهي طبعاً من المقدسات الديمقراطية وبين التساهل حيال التطرف، وقد وصل إلى حدود الإهمال وأحياناً التعامي، وهو ما أتاح لهؤلاء الوحوش أن يتحركوا: خالد مسعود يخرج ليدهس الناس على جسر ويستمنستر، سلمان عبيدي يفجر الأطفال الخارجين من حفل أريانا غراندي في مانشستر، رشيد رضوان وخورام بات ويوسف زغبة يدهسون المارة ويهاجمون الناس على جسر لندن، فعلاً كان من الضروري أن يطفح هذا الكيل منذ زمن بعيد، ربما مثلاً منذ 22 مايو (أيار) عام 2013 عندما قام النيجيريان مايكل إديبولاجو ورفيقه مايكل إديبويل بقتل الجندي البريطاني لي ريغبي أمام ثكنته العسكرية في وولويتش في جنوب شرق، وأمام المارة في عمل وحشي.
لكن سياسة التسامح التي تحدثت عنها ماي والتي طُبّقت تحت مسوّغات الحرية من جهة، ولأسباب أخرى ومنها تحديداً سياسة تعمّد إيواء العناصر الإرهابية والتي تصنع الإرهابيين، بهدف استعمالها، بالتالي لممارسة الضغوط على الأنظمة التي هرب منها هؤلاء، كل ذلك جعل المشكلة تتفاقم على هذا النحو الذي لم يعد يجوز أن يستمر.
في 22 مايو وضع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أصبعه على الجروح عندما طرح السؤال مباشرة، كيف تؤوي الدول الأوروبية المتطرفين والمتشددين بحجة حرية التعبير، بينما يتعيّن عليها أن تختار بين قواعد الحرية والمتطرفين الذين يسكنون فيها، وأضاف في حلقة نقاش ملتقى «مغرّدون» الذي عقد على هامش قمة الرياض، لسنوات اتهمت السعودية بتمويل الإرهاب، أقول لمن يدّعي ذلك أرونا أين هم لنحاسبهم، عندنا من يخالف الشريعة يُحاسب فوراً، لكن الأوروبيين لا يفعلون ذلك.
بعد أقل من 24 ساعة على جريمة جسر لندن، كشفت الصحف البريطانية حقائق مثيرة جداً، ومنها مثلاً أن خورام بات وهو من أصل باكستاني، وشارك في الهجوم لم يكن معروفاً للشرطة فحسب، بل ظهر في فيلم وثائقي بعنوان «الجهاديون المجاورون» بثته القناة الرابعة، وكان يقف وسط مجموعة من المتطرفين ويحمل علم «داعش» داعياً إلى الكراهية في «ريجنت بارك» بوسط لندن، أكثر من ذلك تبيّن أنه كان على صلة بالتحقيقات في هجمات بريطانيا التي حصلت في 7 يوليو عام 2005، وقد سبق أن أُوقف بعدما تلقت الشرطة بلاغات عن تطرفه وتأييده علناً الأفكار الراديكالية للداعية أحمد موسى جبريل، لكن ما لبث أن أُطلق سراحه وهو ما يثير تساؤلات صحافية على الأقل.
في هذا السياق كشفت تقارير موثوقة عن أنه بعد الانفجار في مانشستر الذي أوقع 22 قتيلاً و59 جريحاً تلقت الاستخبارات البريطانية (M16) تقريراً من دولة عربية كبيرة ونافذة وذات صدقية عالية، عن أن إرهابيين داخل بريطانيا يعدّون لعملية تسبق موعد الانتخابات، وفي المعلومات أن أليكس يانغر رئيس «M16» أطلع السلطات البريطانية على التقرير، وأرسل نسخة فورية منه إلى أندرو باركر مدير الاستخبارات الداخلية (M15).
لكن ليس واضحاً كيف تصرف المسؤولون البريطانيون بعد هذا التقرير، الذي تؤكد المعلومات أنه وصل إلى (M16) قبل سبع ساعات من الهجوم على جسر لندن، فرغم أن الحكومة البريطانية كانت قد كثّفت الإجراءات الأمنية بعد تفجير مانشستر، تمكن الإرهابيون الثلاثة من تنفيذ جريمتهم التي قالت ماي بعدها «طفح الكيل»!
الأوكار الإرهابية يفترض أن لا تكون خافية على السلطات، فالصحف البريطانية نشرت عشرات التحقيقات والتقارير عن هذا، وغالباً ما تم التركيز على مانشستر على أنها «قندهار البريطانية» لأنها معقل الراديكاليين منذ عقدين من الزمن، صحيفة «الغارديان» تؤكد أن سلمان العبيدي منفذ مذبحة حفل أريانا غراندي ولد وترعرع في حي «ألسمير رود» وسط مانشستر وفي المكان الذي عاش فيه الإرهابي أبو جمال الحارث واسمه الحقيقي رونالد فبدلر، وقد قتل في الموصل كما قتل أيضا 16 إرهابياً مع «داعش» خرجوا من مانشستر.
قائمة الأسماء الإرهابية الخارجة من هناك تطول: الباكستاني محمد الفاروقي، مغني الراب رافاييل هوستي الذي قتل في سوريا، الليبي عبد الرؤوف عبد الله الذي جنّد البريطاني ستيفن غراي، هل كل هذا يخفى على السلطات البريطانية التي وجدت نفسها دائماً تصطدم بعائقين في مكافحة المتطرفين، أي الحرية من جهة والحرص على استعمال هؤلاء وسيلة ضغط على بلادهم التي فروا منها.
عندما تقول ماي: «حان الوقت لنقول طفح الكيل» سيتذكر البريطانيون وغيرهم أن الكيل طافح منذ زمن بعيد، وعندما تدعو إلى «مكافحة هذا الفكر الشرير الذي هو تحريف للإسلام والحقيقة، وأنه لا يمكن الانتصار عليه بالتدخل العسكري وحده ومن الضروري الدفاع عن قيم التعددية البريطانية التي تنبذ الكراهية»، يصبح من الضروري وضع استراتيجية يمكنها فعلاً أن ترد عن السؤال الصعب:
كيف نمنع قيم الحرية من أن توفّر مظلة حماية ومنفذاً لإفلات المتطرفين؟ وكيف نمنع حسابات السياسة من استعمال هؤلاء المتطرفين تحت شعارات الحرية منصة ابتزاز للآخرين؟