سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

مُقيدة اليدين

القصة تقول إن مسؤولاً أوروبياً استضاف عدداً من نظرائه العرب، في بيت يملكه في بلده، وإن جمال البيت لفت انتباه الجميع، فقام واحد من الضيوف يسأل المضيف، عن الطريقة التي استطاع بها أن يبني بيتاً جميلاً كهذا؟!
ولم يكذّب المضيف خبراً، فقام يدعو صاحب السؤال إلى نافذة من نوافذ البيت، ومنها أشار إلى جسر ممتد في آخر الأفق، ثم سأله: هل ترى الجسر الممتد هناك؟!.. وكان الجواب: نعم!.. فعاد صاحب البيت يروي للسائل، أنه كان من بين الذين أشرفوا على تصميم الجسر، وأنه بشكل من الأشكال التي لا تخفى عن فطنة السائل، قد تمكن من وضع مبلغ من المال المخصص لإنشائه في جيبه، فكان البيت على الصورة التي يراها الضيوف!
كانت هذه هي القصة باختصار!
عاد المدعوون العرب... كل واحد إلى بلده... ثم مر وقت، إلى أن دعا أحدهم المسؤول الأوروبي ذاته، وحشد المجموعة نفسها إلى اللقاء، فاكتشف الضيف القادم من أوروبا، بنظرة عابرة، أن بيت صديقه المسؤول العربي، أفخم بكثير من بيته!
سأل عن سر فخامة البيت، فتكرر المشهد الذي رافق السؤال الأول، مع بعض التفاصيل التي أضفت على الموضوع إثارة أعلى!
أخذه صاحب البيت من يده إلى النافذة، وأشار إلى الأفق البعيد، وهو يسأل: هل ترى الجسر القائم هناك؟!... أجاب الضيف الأوروبي في براءة: ليس في الأفق أي أثر لأي جسر!
عاد به مُضيفه إلى مقعده وهو يضحك ويقول: أعرف يا صديقي أنه لا جسر في الاتجاه الذي أشرت لك إليه، ولا يحزنون.. فالقصة في الحقيقة هي أنه كان من المفترض أن يمتد جسر حيث أشرت، غير أني باعتباري مشرفاً على مشروع الجسر الذي لم يتم، قد أقمت بميزانيته كلها، هذا البيت الذي أعجبك!
وكانت القصة هذه المرة باختصار أيضاً!
ولن تستطيع أن تُبعد معنى القصة في حالتيها عن رأسك، وأنت تتابع منظر رئيسة كوريا الجنوبية، وقد اقتادوها إلى المحكمة في بلدها، مُقيدة اليدين!
لقد كانت إلى مارس (آذار) الماضي تسكن قصر الرئاسة الشهير بالبيت الأزرق، وكانت أول امرأة تصل إلى هذا المنصب في العاصمة سول، وكان أبوها هو الذي أسس في مطلع ستينات القرن الماضي، للنهضة الكورية الحالية، ولكن هذا كله لم يشفع لها في شيء!
الغريب في أمرها أن محاكمتها التي توصف بأنها محاكمة القرن، تجري حساباً على فساد صديقة لها، وليس على فساد مباشر وقع منها، فالصديقة التي تجري محاكمتها بالتوازي مع الرئيسة السابقة، كانت مقربة جداً من ساكنة البيت الأزرق، بل كانت صديقة عمرها، ولكنها استغلت صداقتها برئيسة البلاد على أسوأ ما يكون الاستغلال، ومارست فساداً باسم الرئيسة على نطاقات واسعة!
لم تكن السيدة الرئيسة تعلم طبعاً، وليس لها ذنب مباشر في الموضوع، ولكن ذنبها أن صديقة عُمرها، المقربة منها جداً، مارست الفساد الذي مارسته، بهذه الصفة، وفرضت ابتزازاً بملايين الدولارات على شركات كورية جنوبية، لصالح مؤسسات مجتمع مدني تعمل فيها وتشرف عليها!
الآن.. تقف السيدتان في قفص واحد تقريباً، وتبكي الصديقة وهي تطلب من الرئيسة السابقة أن تغفر لها، لأنها وضعتها في هذا الموقف، وكانت ساكنة البيت الأزرق، سابقاً، تحرص في كل مرة يقتادونها فيها إلى المحكمة، على أن تتجنب النظر إلى حيث تجلس الصديقة التي غدرت بها، ولأنها كانت إلى شهور معدودة على أصابع اليد الواحدة مضت، رئيسة كاملة الصلاحيات، ثم جردها البرلمان من كل شيء، فإن القاضي حين سألها عن وظيفتها، لم ترد وتقول بأنها الرئيسة السابقة لكوريا الجنوبية بجلالة قدرها، ولكنها ردت بتسليم، وفي هدوء: لا وظيفة لي!
رئيس سابق لدولة عربية كان كلما سألوه عن الفساد في بلده، رد في تلقائية وقال بأن الفساد موجود في كل بلد، وإنه كظاهرة، ليس حكراً على وطن دون آخر!
وهو كلام صحيح، لأن الفساد يوجد حيث يوجد الناس دائماً... والقرآن الكريم يقول: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس...) ولكن الفارق بين أرض، وبين أخرى، ليس في أن حجم فساد هذه الأرض، كبير، وأن حجم فساد تلك الأرض، صغير.. لا.. الفارق يبقى في أن بلداً يقاومه، بجد، ولا يساوم مع مرتكبيه، وأن بلداً آخر لا يقاومه بالدرجة نفسها من الجدية، وقد يساوم فيه!
أحد الكوريين الجنوبيين الذين تابعوا محاكمة الرئيسة المتهمة، قال إن أهم ما في المحاكمة، ليس أن كوريا الجنوبية تحاكم أول امرأة ترأسها، ولا أن بنوة المرأة لصاحب نهضة البلاد لم تشفع لها في شيء، ولا أن القاضي لم يجد حرجاً في تقييد يديها أمام الكاميرات، فكل هذا مهم، غير أن الأهم منه، أن العاصمة سول تستطيع أن تضمن ألا يتكرر ما حدث من الرئيسة والصديقة مرة ثانية!