طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

ترقص «ترلم» أرقص

ساعات لا تتجاوز 48، تفصلنا عن افتتاح مهرجان «كان»، في دورته الاستثنائية، التي تحمل رقم «70»، تابعت هذا المهرجان الأكبر عالمياً على مدى 26 دورة، بداية من عام 92، ليس لنا كعرب طوال تاريخ «كان» الكثير من الجوائز، لدينا من المؤكد الكثير من الحكايات. بالنسبة لي ولأغلب الزملاء، المخرج الراحل يوسف شاهين هو الوجه الأكثر حضوراً في فعاليات المهرجان، حتى إن شركة الطيران الفرنسية تضع صورته على جدرانها مع كبار النجوم والمخرجين العالميين الذين شاركوا في فعالياته، حقق شاهين نحو 12 حضوراً في مختلف التظاهرات. في عام 97 احتفل المهرجان باليوبيل الذهبي «50 عاماً» على انطلاقه، شارك يوسف بفيلمه «المصير» في المسابقة الرسمية، ولم يحصل على جائزة في لجنة التحكيم التي رأستها إيزابيل أدجاني، ولكنه حصد سعفة تقديرية عن مجمل أعماله، البعض اختلط عليه الأمر في مصر، معتقدين أن السعفة عن الفيلم، مع الزمن تتبخر الجوائز ويتبقى الشريط السينمائي، «المصير» يتبنى فلسفة العلامة «ابن رشد» الذي كان ينادي بإعمال العقل.
لا تزال تسكن بداخلي تفصيلة لم أنسها عن الفيلم، إنها قصة «ترلم»، كنت أسجل مذكرات حياة الموسيقار الكبير كمال الطويل الذي اتصل بي غاضباً ومؤكداً، أنه سيقيم دعوى قضائية ضد يوسف شاهين، وسوف يطالب المسؤولين في «كان» بمنع عرضه لأن المخرج اعتدى على حقه القانوني وحذف «موتيفة» موسيقية من اللحن، وطلب مني عنوان المهرجان لإرسال خطاب رسمي، سر غضب الطويل أغنية محمد منير «عَلِّي صوتك بالغنا»، لحن الطويل الكلمات في هذا المقطع هكذا «ترقص - ترلم - أرقص».
أراد يوسف شاهين أن يلغي أثناء التسجيل النهائي للأغنية «ترلم» ويستبدلها بلحظة صمت، وبدأ التراشق بين العملاقين، وتناسيا في ذروة الغضب ما بينهما من نجاحات متعددة مثل فيلم «عودة الابن الضال»، الذي شهد بداية انطلاق ماجدة الرومي، بعد تدخل الأصدقاء استمع الطويل في لحظة هادئة للحن بعد حذف «ترلم»، فوجدها أحلى وتنازل عن الدعوى القضائية.
تأملوا الدقة في التنفيذ وفي التفاصيل، «موتيفة» موسيقية لن تستغرق ثواني، يحدث حولها كل هذا الجدل، بينما نتابع ما يجري الآن على مستوى الدراما الرمضانية، لنكتشف أن التأليف على الهواء هو سيد الموقف، والمخرج الذي نقرأ اسمه على «التترات» منسوب إليه العمل كاملاً لم يكن بمفرده، بدأنا نرصد في السنوات العشر الأخيرة، مع انفجار في زيادة عدد الفضائيات العربية، أسماء مخرجين آخرين يقودون أكثر من وحدة تصوير في المسلسل نفسه. زاد الطلب على الإنتاج الدرامي بسبب الانفجار الفضائي، فأصبح الإنجاز السريع قبل أن يبدأ الماراثون الرمضاني هو الحل، وهكذا تتعدد وحدات التصوير، لم يعد الأمر يقع تحت طائلة قانون الإبداع الفني ولكنه اللهاث الذي بطبعه يخاصم الإبداع، لم نسمع مرة أن مخرجاً أعلن احتجاجه، لأن هناك من يتدخل في عمله، بل هو يرحب بذلك حتى يقبض في النهاية أجره، والنجم لا يعنيه سوى أن تنشر الصحف والمواقع، أنه لا يزال متربعاً على القمة ويتقاضى الأجر الأكبر، صار شعار الجميع هو الإنجاز السريع، وكأنهم قد فوجئوا بقدوم الشهر الكريم.
أكتب لكم الآن من «كان»، وأتحسر على زمن شاهدنا فيه إضافة أو حذف «ترلم» من أغنية، كادت تؤدي إلى منع عرض فيلم في أهم مهرجان عالمي!