فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

حماس و«أبدية النزاع»

في منتصف التسعينات، أجرت مجلة «المجتمع» الكويتية «الإخوانية»، حواراً مع أحمد ياسين الزعيم التاريخي لحركة حماس، وكان العنوان يتنبأ بزوال إسرائيل قبيل الألفية، ويتكلم بشكلٍ حالم، لكنه وبالحوار ذاته أبى أن يتجه لصراعٍ مع منظمة التحرير رغم «الاستفزازات»، مستشهداً بالآية: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك». بعد بضعة عقود تعلن حماس وثيقتها الجديدة التي تعدّل فيها على نهج التأسيس ووثيقتها الأولى.
إن حركة حماس، وبإعلانها لوثيقتها الجديدة في الثاني من مايو (أيار)؛ تعبر عن قلقها من وضعها الحالي لاعتبارات سياسية وفكرية ومتغيرات دولية. الجذر الإخواني للحركة لم يكن موضع إنكارٍ على مرّ تاريخها منذ التأسيس في ديسمبر (كانون الأول) عام 1987، غير أن وثيقتها التأسيسية تنص على كونها من أجنحة تنظيم الإخوان المسلمين وتتأثر به، وتشيد بآيديولوجيته. غير أن الموجة الإقليمية والدولية ضد تنظيم الإخوان ووضعه ضمن لوائح الإرهاب، وتلويح الإدارة الأميركية الحاليّة بوضع كوادره ضمن قوائم إرهابية، جعل الحركة تتجه لعملية تحسين حضورها في المجال الدولي القانوني، اتقاءً منها لشرر النار الذي قد تجلبه انتماءاتها الإخوانية.
وعلى الضفة الأخرى، ومع إعادة إنعاش عملية السلام بالشرق الأوسط، وبزيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حاولت الحركة - نظرياً - الاندماج أكثر بالعملية السياسية، بدلاً من إدمان العمليات الانتحارية، والتركيز على قتل المدنيين أو استهداف العواصم بطرق غير حربية، وخارج نطاق المقاومة المشروعة بالقوانين الدولية.
حركة حماس جزء من الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، غير أنها اتخذت لنفسها صيغة حضور خارج نطاق السلطة المعترف بها دولياً، وليست لديها أبعاد واقعية تجاه قضية العرب التاريخية، حتى نصّ الوثيقة الجديدة لا يعبر عن واقعية، بل تستمر الحركة في إعاقة عمل السلطة، وتضرب بعمليات الاتفاق الممكنة والواقعية ضمن المبادرة العربية التي طرحتْها المملكة العربية السعودية واتفقت عليها الدول العربية والعالمية.
ورغم تخلي الحركة عن هدف «زوال إسرائيل»، فإنها في مضمون الوثيقة تتجه نحو «أبدية النزاع»، وإنهاء كل إمكانات الحلول، وسبل التفاوض، في مادة من مواد الوثيقة تقول: «تؤكد حماس أنَّ الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم؛ وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنَّما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين؛ بينما قادة الاحتلال هم من يقومون باستخدام شعارات اليهود واليهودية في الصراع، ووصف كيانهم الغاصب بها. وترفض حماس اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي، وترى أنَّ المشكلة اليهودية والعداء للسامية واضطهاد اليهود ظواهر ارتبطت أساساً بالتاريخ الأوروبي، وليس بتاريخ العرب والمسلمين ولا مواريثهم. وأنَّ الحركة الصهيونية – التي تمكّنت من احتلال فلسطين برعاية القوى الغربية - هي النموذج الأخطر للاحتلال الاستيطاني، الذي زال عن معظم أرجاء العالم، والذي يجب أن يزول عن فلسطين».
هذا تطوّر مهم إذا تم تطبيقه على الأرض، وذلك لتغيير قواميس الكراهية التي ضُخّت بأناشيد حركة حماس منذ تأسيسها، مما ساهم في نشر الكراهية بين الفلسطينيين بشتى أديانهم وانتماءاتهم.
الأكاديمي الفلسطيني الدكتور عقل محمد صلاح طرح في مارس (آذار) من العام الماضي كتاباً تاريخياً ضرورياً بعنوان: «حركة حماس، وممارستها السياسية والديمقراطية منذ 1992 وحتى 2012» وفي الفصل الثاني يقارن بين وثيقتي حركة حماس، ومنظمة التحرير، الأساسيتين، وينقل تحليلاً للأشهب مستنداً إليه حيث يقول: «إصدار حماس ميثاقها الخاص جاء بسبب رفضها الانضمام لأي أطر أو هياكل تابعة لمنظمة التحرير؛ لأن الحركة لم تعترف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وباءت كل محاولات انضمامها إلى المنظمة بالفشل، فمعوقات انضمام الحركة إلى المنظمة من وجهة نظرها تقوم على ثلاث ركائز وهي: نهج المنظمة العلماني وعدم التزامها بالنهج الإسلامي، والثانية برنامجها السياسي المتعلق بالتسوية مع الاحتلال، والثالثة نسبة تمثيلها بالمنظمة، فقد اشترطت الحركة أن تمثل بنسبة تتراوح بين الأربعين والخمسين في المائة».
ثم يشير عقل صلاح إلى الفرق بين اللغتين، فالحركة تستخدم: «لغة إنشائية فضفاضة عامة وغير محددة، كاستخدام مصطلحات الأوطان والطغاة ودولة الباطل، بينما تتميز منظمة التحرير بلغتها الواضحة والمحددة والمباشرة في تحديد النصوص، وميثاق الحركة كان موجها إلى الناس، بينما ميثاق المنظمة يخاطب الشعب الفلسطيني».
لم تتعامل حركة حماس مع القضية الفلسطينية ضمن سياق سياسي، ذلك أن العوز الفكري كان أبرز أسباب تخبط سياساتها وانهيار وثوق الناس بجديتها. لقد استخدمت المسار الأممي بدلاً من الوعي الوطني، واتجهت للصيغ المستحيلة وتركت الإمكانات والحلول المفيدة لعيش الناس ومآلهم ومستقبلهم، والأخطر تحويل القضية الوطنية إلى أداة حشد آيديولوجي خطابي وحزبي، ولم تتجه للاستثمار بالوعي الوطني، والتأسيس لمعاني المقاومة بشكلٍ علمي وقانوني، بدلاً من الشعارات المستهلكة والمستنسخة من فرق الشيوعية وصرعات اليسار، حتى العمليات الانتحارية استنسخت من فرق الموت لدى تنظيمات اليسار.
أولت السعودية منذ بداية القضية الفلسطينية اهتماماً بإيجاد المخارج والحلول، لإنهاء مأساة مجتمعٍ بأكمله حُوّلت قضيته إلى أداة تجارة مالية ودينية، وطرحت مبادراتٍ كثيرة، ولكن الكرة الآن بملعب الساسة هناك. هل ثمة جدية بالوصول إلى حلّ لهذه المعضلة؟! أم أن «أبدية الصراع» ستكون هي الخيار الوحيد، وهو خيار لن يجلب إلا مزيداً من القتل والدماء.