د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

هل اطمأن قلب المفكر محمد الطالبي؟

فقد الفكر التونسي والعربي الإسلامي في الأيام الأخيرة قامة شاهقة من قامات التفكير النّقدي في المسألة الإسلامية: إنّه العالم محمد الطالبي أحد بناة الجامعة التونسية والمؤرخ المختص في التاريخ الإسلامي وصاحب المؤلفات والبحوث المتعددة، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر كتبه «عيال الله» و«أمة الوسط» و«ليطمئن قلبي» الذي وظفناه عنوانا لهذا المقال.
هذا المفكر الذي لطالما أثار الجدل بسبب قراءاته الجريئة ومعاركه الواضحة الصريحة قد قضى نصيب الأسد من العقود التسعة التي عاشها في الكتابة والبحث والقراءة تاركا لنا مشروعا في التفكير النقدي الإسلامي ثريا وجديرا بالبناء والنقاش والتفاعل المعرفي المعمق.
يبدو لي أن الحديث عن المفكر محمد الطالبي وإن كان صعب الحصر والإيجاز والاختزال، فإنه يمكن تبويبه في مجموعة من النقاط التي تعطي فكرة عامة عن الرجل.
من جهتي، فقد عرفته عن قرب: حاورته قبل عشرين عاما أكثر من مرة في بيته، وعملت معه بضعة أسابيع في المدة القليلة جدا التي ترأس فيها المجمع التونسي بيت الحكمة في النصف الثاني من سنة 2011. هو رجل صارم جدا. يعيش من أجل المعرفة. ينتمي إلى زمرة العلماء الذين يتعاطون مع العمل الفكري من زاوية الالتزام. لا يهادن في مواقفه الفكرية. يقول آراءه بكل نبرة صادمة وموجعة ثقافيا. يختار عباراته وفقا للأكثر قدرة على التبليغ الدقيق الصريح لا التي تظهر وتستبطن.
إن مساندي الطالبي وخصومه على السواء يقرون بأن الرجل صاحب مشروع فكري نقدي منحه عمره. لقد كان مخلصا استثنائيا للتفكير النقدي ولأحد أهم مستندات الحداثة وقيمها. فلا وجود للمعرفة خارج النقد ولا يمكن لأي عقل من العقول سواء العقل الإسلامي أو الأوروبي أو غيرهما أن يستغني عن آلية النقد، بوصفه محركا من محركات التقدم والبناء. إذن الأستاذ الدكتور محمد الطالبي كان صاحب مشروع نقدي في التفكير الإسلامي بغض النظر عما تضمنته انتقاداته من مقاربات صادمة وجريئة، وأكثر من قدرة العقل الإسلامي الجمعي على التحمل والتفاعل والإصغاء.
فالنقد خاصية مركزية في أطروحات الرجل وهو بذلك يستحق صفة المفكر، لأن النقد عنوان هوية المثقف الحقيقي باعتبار أن الفكر صدمة وجرأة ومفاجأة، وليس مداعبات وحسابات ومناورات.
ودون الدخول في التفاصيل فإنه بالنسبة إلى الراحل محمد الطالبي الذي يعرف نفسه بالمسلم القرآني، ويعتبر القرآن نصا في تدبر مضامين الإسلام وقيمه، ويرى أن التراث الإسلامي ليس مقدسا وتجب مراجعته وإعمال العقل فيه، إضافة إلى أنه لديه قراءات خاصة جدا في مسائل تأويل الموضوعات المحرمة وهي بالمناسبة الموضوعات التي تم توظيفها إعلاميا بشكل سيئ من أجل خلق فرقعات إعلامية، كانت سببا في إقامة بعض التكفيريين الحد عليه.
ولكن هناك خاصية في تجربة محمد الطالبي الفكرية: فخصومه ينتمون إلى المتشددين وأيضا من يصفهم بالانسلاخيين أي الذين يقاربون الإسلام مقاربة تاريخانية عقلانية محضة.
فالرجل ليس كما تم تسويقه في بعض وسائل الإعلام فهو يولي النص القرآني مكانة مخصوصة، وينتقد بشدة منهج محمد آركون وعبد المجيد الشرفي وهشام جعيط، ويصفهم بأنهم مفكرون من خارج المسجد.
بمعنى آخر فإن الطالبي يقدم نفسه مفكرا يفكر من داخل المسجد ورمزيته وليس من خارجه، ويتعاطى مع القرآن بعقل وحبّ وإيمان.
وفي كتابه «ليطمئن قلبي» شنَّ الطالبي حربا شرسة ضد الانسلاخيين أي الذين انسلخوا عن القرآن وتعاملوا معه كنص يفتقد إلى الخصوصية والقداسة. طبعا لا تفوتنا الإشارة إلى قسوة الطالبي في انتقاء الأوصاف التي وصف بها خصومه في الفكر والمنهج، وهي قسوة وصلت إلى حد تشكيكه في جدوى تخصيص أقسام في الجامعة التونسية تهتم باختصاص الحضارة. فهو ضد هذا الاختصاص، ويرى فيه تطاولا غير صريح وغير واضح على اختصاص التاريخ الإسلامي.
وهكذا نفهم أن الطالبي جمع ضده خصوما من طينة متعارضة: أصحاب المدرسة التاريخية العقلانية للمسألة الإسلامية والتيارات الإسلامية بجميع تفرعاتها. وهو ما أفقده جبهة من المريدين والداعمين لمشروعه، خلافا لأسماء أخرى في تونس نجحت في تأمين جماعة تحيط بها وتنشر أفكارها وملتزمة ضمنيا بالدفاع عنها أشخاصا وأطروحات.
لقد اختار الطالبي الجهاد الفكري مفردا ووحيدا، فكان إلى آخر فترات حياته يستميت من أجل تبليغ أفكاره وإعلان نقده بصوت عال، محاولا الاستفادة من وسائل الإعلام التي وجدت في أطروحاته وفي استعداده المطلق للصراحة والوضوح وجبة إعلامية مثيرة للفرقعات ولتحقيق أعلى نسبة مشاهدة.
لقد رحل الطالبي مطمئنا لأنه لم يدخر جهدا في ممارسة النقد الفكري وغير مطمئن؛ لأن التنظيمات الإسلامية تشن حربا ضد العقل الإسلامي المتحرك الحي.