وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

الخطر الواحد

كلما تفاقمت نكسات «داعش» على جبهات المواجهة العسكرية في دولة الخلافة المزعومة (سوريا والعراق)، صعّد عملياته الانتحارية خارج «الدولة»، وكأن شعاره اليوم هو: إما دولة للإرهابيين... أو إرهاب لأي دولة كانت.
عمليات «داعش» الانتحارية تنفذ حالياً «كتعويض» عن هزائم «دولة الخلافة»، إن لم يكن انهيارها بعد أن تقلصت أراضيها بأكثر من 77 في المائة مما كانت عليه عام 2014. و«داعش» يعوض نكساته، بقساوة مقصودة، من الأبرياء والنساء والأطفال، أينما طاب له ذلك، أكان في الدول غير الإسلامية (السويد أو بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة...)، أو الإسلامية (العراق وسوريا ومصر...).
بالنسبة لـ«داعش»، تحتل مصر موقعاً خاصاً؛ فهي الدولة العربية الأكثر كثافة سكانية، والدولة الأكثر تفاهماً مع العهد الأميركي الجديد، ما يجعل تحديها «إنجازاً» إرهابياً لا يستهان به. إلا أن الأهم من ذلك أنها، بنظر «داعش»، تشكل أرضاً خصبة لمشروع فتنة مذهبية تمزق النسيج الدقيق للمجتمع المصري.
ولأن مصر هي الدولة التي تضم أكبر أقلية عربية مسيحية، يتوقع «داعش» أن يشكل مصير أقباطها عبرة لمسيحيي الشرق الأوسط قاطبة، ولكل الأقليات العرقية والمذهبية فيه. هذا الاحتمال كافٍ، بحد ذاته، لحمل «الداعشيين» على نقل مواجهتهم العسكرية المكلفة مع الجيش المصري من شبه جزيرة سيناء إلى المدن المصرية الكبرى. وهذا التكتيك - إن صحت تسميته كذلك - باشر بتطبيقه منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عبر تفجيرات استهدفت الأقباط إبان احتفالات عيد الميلاد.
ربما يتوخى «داعش» أن يكرر في مصر تجربة توسعه في العراق عام 2014، حين أخرج القوات العراقية من عدة مدن كبرى، وسيطر على الموصل بحملة عسكرية صاعقة.
ولكن مشكلة «داعش» أن معطيات مصر الديموغرافية والميدانية تختلف عما كانت عليه في العراق.
ففي العراق، اتخذت عمليات «داعش» العسكرية، عام 2014، طابع تصحيح الخلل بين النفوذين السني والشيعي، بعد انهيار نظام صدام حسين، الذي عملت إيران على تعميقه، وسط «غض طرف» أميركي في عهد حكومة إبراهيم الجعفري.
وعلى الصعيد القتالي، كان الجيش العراقي لا يزال في طور إعادة تشكيل فرقه، بعد قرار الاحتلال الأميركي حله، وتسريح كادراته المدربة، التي انضم كثير منها إلى مقاتلي «داعش».
أما في مصر، فلا خلاف سياسياً أو طائفياً بين السلطة (السنية) والأقباط، الذين لا تتجاوز نسبتهم الـ10 في المائة من سكان مصر، ولا قيود تمس قدرات الجيش المصري وجهوزيته... فعلى أي استراتيجية عسكرية أو رؤية سياسية يبني «داعش» مخططاته في مصر؟
إذا كان الهدف تهجير عشرة ملايين قبطي، أسوة بتهجير تركيا العثمانية للأرمن... فتحقيق ذلك يتطلب ظروفاً دولية استثنائية، وفرتها لتركيا آنذاك الحرب العالمية الأولى. وإذا كان الهدف إزالتهم من الوجود على الطريقة النازية... فذلك من رابع المستحيلات، إن لم يكن من أولها، في القرن الحادي والعشرين، حتى في حال توصل «داعش» إلى إقامة دولته الثيوقراطية.
انطلاقاً من حسابات الجدوى السياسية - المفترضة في مخطط أي حركة إرهابية تتطلع إلى إقامة دولتها الخاصة - يتصرف «داعش» اليوم كتنظيم فوضوي (Anarchist)، يستهدف زعزعة استقرار مصر دون أي احتساب للتداعيات الداخلية والخارجية لتطور كهذا.
إلا أن توجه «داعش» المتزايد لاعتماد أساليب التنظيمات الفوضوية، خصوصاً على صعيدي رفض التعايش مع الغير، ورفض تقبل الآخر، بات يتطلب تنسيقاً عربياً - دولياً طويل الأمد، على مستويين: الأول حضاري، عبر مؤسسات بحوث، ودراسات أكاديمية، تتفاعل فيها الطروحات الإسلامية والغربية، وترسي علاقة فكرية مستدامة بين المجتمعات الإسلامية والغربية، والثاني إقامة علاقات أمنية واستخباراتية مخصصة لاحتواء ما يتحول، بثبات، إلى خطر محدق بالإنسانية والمجتمعات الحضارية.