عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تقوية الحكومة بلا انقلاب أو مظاهرات

في 30 ساعة فقط قدمت تيريزا ماي، لدارسي السياسة (وبخاصة المهتمون بتطوير الديمقراطية والإصلاح في العالم بأسره درساً حول كيفية العمل في الديمقراطيات البرلمانية، وتقوية السلطة في مواجهة التحديات بأساليب ديمقراطية بلا ثورات وانقلابات، وانتفاضات جماهيرية بتسميات فصول السنة.
30 ساعة بين إعلانها المفاجئ الثلاثاء الرغبة في إجراء انتخابات في 8 يونيو (حزيران)، وبين موافقة برلمان يتضرر أعضاؤه من الإجراء. حل البرلمان قبل خمس سنوات (أي في يونيو 2020)، يتطلب تعديل القانون 2011 لتثبيت الدورات البرلمانية Fixed Term Parlemnts Act 2011، الذي حدد فترة الدورة البرلمانية بخمس سنوات. قبلها كان يمكن إجراء الانتخابات في أي وقت، كسحب الثقة من الحكومة بأغلبية الأصوات (ويكفي صوت واحد كما حدث عام 1979 للحكومة العمالية بزعامة جيمس كالاهان) أو اضطرار رئيس حكومة أقلية إلى زيادة عدد المقاعد. فمجلس العموم مكون من 650 مقعداً، ولا تستطيع حكومة لها أقل من 326 مقعداً تمرير أي قوانين بلا عقد صفقات وتقديم تنازلات لكتلة أو كتل أخرى من الأحزاب (حالياً عشرة أحزاب بجانب خمسة من المستقلين، ورئيس البرلمان وهو من المحافظين، لكنه محايد لا يمكنه التصويت، وهناك مقعد شاغر - ويمكن للقراء معرفة المزيد على الرابط التالي (https:--goo.gl-CA6KGc). تضطر حكومة الأقلية أحياناً إلى انتخابات جديدة على أمل زيادة عدد المقاعد، مثلما فعلت الحكومة العمالية بزعامة هارولد ويلسون في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1974.
كانت فازت بأكبر عدد من المقاعد (310) في انتخابات فبراير (شباط) 1974، بينما تناقصت مقاعد المحافظين إلى 297، وحتى بتحالف ويلسون مع الأحرار أعطى حكومته 315 مقعداً فقط، أي 11 أقل من أغلبية تمرير أي مشروعات.
انتخابات أكتوبر 1974 أعطت حكومة ويلسون 319 مقعداً، وظلت حكومة أقلية، لكن الأحرار بزعامة جيريمي ثورب (1929 - 2014) فازوا بـ13 مقعداً، وجاء اتفاقهم (اتفاق على التصويت عرف بـlib - lab pact، أي تحالف بين العمال والليبراليين) مكّن الحكومة العمالية من الاستمرار لأربع سنوات وسبعة أشهر. وأحيانا ما يكون أداء الحكومة الجيد في الاقتصاد مع ضعف المعارضة وتناقص ثقة الشعب في سياستها البديلة، سبباً في ارتفاع شعبيتها في استطلاعات الرأي، وهنا ينتهز رئيس الوزراء فرصة ارتفاع شعبية حكومته لإجراء ما يعرف بانتخابات خاطفة، كما فعل جون ميجور في 1993.
مزجت السيدة ماي بين العاملين الأخيرين: الرغبة في زيادة عدد المقاعد (أغلبية المحافظين ستة مقاعد فقط، لكن ما يعرف بـ«الأغلبية العملية»، أي أحزاب أخرى تصوت معها هي 17 صوتاً، وهم 10 من آيرلندا الشمالية واثنان من المستقلين) وارتفاع شعبية الحكومة على حساب تناقص شعبية العمال (آخر استطلاعات للرأي تعطي المحافظين 46 في المائة من الأصوات والعمال 25 في المائة فقط، الحكومة عادة تفوز بأغلبية مريحة بـ41 في المائة فقط، أي يتوقع فوز المحافظين بمائة مقعد إضافية).
الانتخابات الخاطفة أيضا تربك المعارضة إذا لم تكن مستعدة لها. وهنا جاءت براعة السيدة ماي وحنكتها السياسية. فقد أبقت الأمر سراً، وقالت في تصريحات عدة للصحافة إنها ملتزمة بقانون الفترة الثابتة، وإنها لن تجري انتخابات تشغل الحكومة والناس عن التحدي الأكبر الذي يواجه المملكة، وهو المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي الذي تضمر زعامته شراً لبريطانيا. ليس لأن بروكسل تكره بريطانيا، بل لخوف زعامة الاتحاد (ممثلة في رؤساء المجلس الأوروبي، والمفوضية ورئيسها بالكامل، ورئيسَي المحكمة الأوروبية والبرلمان الأوروبي) من أن تقليد ناخبي بلدان أخرى كفرنسا (تبدأ فيها مرحلة التصويت الرئاسي الأولى اليوم - الأحد) وهولندا وألمانيا، وفيها تيارات قوية مناهضة للمشروع الفيدرالي لأوروبا.
لعبت ماي على عنصر المفاجأة؛ ولذلك عندما تلقينا نحن الصحافيين رسالة الإيميل للتوجه إلى داوننغ ستريت في صباح الثلاثاء بعد العودة من إجازة بضعة أيام، لم يخبرونا عن السبب. عادة ما نعرف نحن الصحافيين نوايا الحكومة قبلها ببضعة أيام. أما في شكل بيان مع اتفاق الجنتلمان التقليدي على ساعة محددة للنشر (عادة دقيقة بعد منتصف الليل)، أو تسريبات من مصادرنا الخاصة. لكن هذه المرة لم تعرف مصادرنا الخاصة نفسها بنوايا رئيستهم في المكتب. والسبب حرمان أحزاب المعارضة من إعداد خطة بديلة ومشروعات تقدم للناخب لتغريه بالتصويت لها بدلاً من الحكومة.
لكن كان على السيدة ماي التوجه للبرلمان في اليوم التالي (الأربعاء) للحصول على موافقة مجلس العموم لإلغاء قانون تثبيت الدورة البرلمانية. وحسب المرسوم الملكي للقانون، فإن إلغاءه يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء، أي 434 صوتاً وللحكومة 330 فقط.
لعبت ماي أيضاً بورقة بارعة قبل التصويت في جلسة المناقشة الأربعاء رداً على سؤال من أحد نواب الحكومة: «ماذا تقول رئيسة الوزراء لمن سيصوّت ضد مشروع قرار إجراء الانتخابات أو من يمتنع عن التصويت عليه؟». وردت ماي ببراعة «يعني أن أي حزب أو شخص لا يريد إجراء الانتخاب يقدم موقفاً علنياً برضائه على أداء الحكومة وثقته بها». وهنا أسقط في يد المعارضين؛ وفاز مشروع الحكومة (قدمه زعيم الأغلبية ديفيد لديننغيتون ويعرف بزعيم المجلس leader of the house، وهو منصب وزاري وله مقعد في مجلس الوزراء) مساء الأربعاء بـ522 صوتاً مقابل 13 صوتاً للرافضين، وامتنع نواب الحزب القومي الاسكوتلندي (54) عن التصويت. رئيسة الوزراء قالت في إعلانها الانتخابات إن هناك قوى كبيرة تريد إحباط إرادة الشعب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالتالي إضعاف موقف الحكومة في المفاوضات مع بروكسل. كما أن حزب العمال، المعارضة الرسمية للحكومة، يهدد بأنه لن يمنح الحكومة الثقة عند التصويت على صيغة الاتفاق النهائي مع أوروبا؛ ولذا فزيادة عدد المقاعد، وبخاصة مع وجود عدد من نواب الحكومة مؤيدين للبقاء تحت هيمنة بروكسل، سيمنحها ورقة قوية للتفاوض مع أوروبا. وبالفعل ارتفع الجنيه الإسترليني، وأصاب القلق زعماء الاتحاد فور موافقة مجلس العموم مساء الأربعاء. وصدرت صحف الخميس بصور للسيدة ماي تعيد للأذهان صورة السيدة الحديدية الليدي ثاتشر، أقوى رئيسة وزراء، تعيد للأذهان هيبة بريطانيا العظمى منذ خروج السير ونستون تشرشل من داوننغ ستريت في 1955.