سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

درس طازج في جدوى العنف!

في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، استقر رأي مؤسسة نوبل في استوكهولم، على منح جائزتها للسلام عن العام، لرئيس كولومبيا، وكان رأي المؤسسة الذي أعلنته، أن الرجل يستحق تكريمها لأنه سعى بكل ما في إمكانه، إلى أن ينعم أبناء بلده بالسلام فيما بينهم، بعد أن كان العنف قد أنهكهم لعقود من الزمان!
وكانت القصة التي تابع العالم فصولها في كولومبيا، قبل منح أرفع جائزة عالمية لرئيسها، أن جماعة «فارك» المتمردة، قد ألقت سلاحها أخيراً، وأنها قبلت أن تجلس مع الرئيس على طاولة واحدة، من أجل هدف واحد: ألا يكون للعنف مكان في المستقبل على أرض كولومبيا، وأن تنسى الجماعة ما ظلت تنتهجه لسنوات طويلة، وأن تقدم الرغبة من جانبها في السلام، على كل ما عداها، في مُقبل الأيام!
وكانت «فارك» قد مارست العنف في بلادها لآماد بعيدة، ثم كانت قد حصدت في طريقها الكثير من الأرواح، وكان كل مواطن كولومبي لا يمارس العنف، ولا يعرفه، قد جاء عليه وقت تمنى فيه، لو يغمض عينيه ثم يفتحهما، فلا يجد لهذه الجماعة أثراً فوق الأرض، وكان الرئيس الكولومبي، حائز نوبل للسلام الآن، يشارك كل مواطن من مواطنيه، الأمنية ذاتها، لولا أن هناك فرقاً يبقى موجوداً على الدوام بين الرئيس.. أي رئيس.. وبين أي مواطن عادي من المواطنين!
وهذا الفارق هو أن المواطن يتمنى في كل أحواله، ثم لا يستطيع أن يذهب في الغالب لأبعد من التمني، لا لشيء، إلا لأنه لا يملك ما يجعله قادراً على ترجمة أمنياته إلى واقع حي تجري في عروقه الدم!.. أما الرئيس فهو يملك بحكم السلطة التي في يده، وهذا ما جعل الرئيس هناك يدعو «فارك» إلى أن تأتي إليه، وأن تجلس معه على طاولته، وأن تتخلى عن العنف، وأن يكون جلوسها على الطاولة هو آخر عهدها بزمن من التطرف في فرض الرأي مضى!
وقد كان للرئيس ما أراد.. صحيح أنه لما عرض اتفاق السلام مع الجماعة على الشعب، فوجئ بأن الغالبية ترفضه في استفتاء عام، وصحيح أن ذلك قد أصابه بما يشبه خيبة الأمل، ولكن الأصح من هذا، ومن ذاك، أنه لم ييأس، ولم يسمح لليأس بأن يقوده، فعاد يعرض الأمر على الشعب من جديد، وساعده على المحاولة مرة أخرى، أن «فارك» فيما بدا، كانت راغبة في أن تسلك طريقاً مختلفاً عن حق، وكانت صادقة، وكانت مع رغبتها، ومع صدقها، تريد أن تقول إن تجربتها تنطق بأن العنف لا يفيد، وأنه لا يؤدي إلى شيء في النهاية، سوى الجراح على جانبيه، وسوى الآلام التي من شأنها أن تظل تتوزع على طول الطريق!
وحين توقفتُ من قبل، عند هذه التجربة الكولومبية، تمنيتُ لو أن جماعة الإخوان قد أخذت الدرس من تلك التجربة، وتحديداً من رفض اتفاق السلام مع «فارك» في استفتاء عام، لأن الرفض لم يكن لأن الكولومبيين كارهون للسلام، وإنما لأنهم كانوا يريدون أن يقولوا، كما تبين بعد الاستفتاء، إنهم ليسوا ضد السلام من حيث المبدأ، ولا ضد الاتفاق الذي سعى الرئيس إلى عقده، ولكنهم فقط يريدون حساباً على العنف فيما مضى من سنين، وأن يذهب كل مَنْ يثبت في حقه أنه مارس عنفاً، إلى العدالة، لتقضي في شأنه بما تراه!
هذه الأيام نجد أنفسنا على موعد مع ما يشبه التجربة الكولومبية، ولكن في أوروبا، وليس في أميركا الجنوبية، وقد كان الموعد الجديد مع منظمة إيتا الانفصالية، في التاسع من هذا الشهر، عندما استيقظ العالم على قادة المنظمة يعقدون مؤتمراً في مدينة بايون الفرنسية، ويعلنون إلقاء أسلحتهم، والإرشاد عن مخابئ ومخازن كانوا يُخفون فيها السلاح!
القصة لها خلفية تعود إلى ما يقرب من خمسة عقود من الزمان، حين نشأت إيتا، كمنظمة انفصالية، وراحت تدعو على مدى الخمسين عاماً، إلى إقامة دولة مستقلة في إقليم الباسك الذي كان يمتد في رأيها، ليشمل أجزاء من جنوب غربي فرنسا، مع مناطق في شمال إسبانيا، وفي الطريق إلى هذه الدولة، فإن مئات من القتلى قد سقطوا دون ذنب، ومعهم الآلاف من الجرحى والمصابين!
وأخيراً.. بل أخيراً جداً.. أدركت إيتا، ربما كما أدركت الجماعة الكولومبية من قبلها، أن طريق العنف بلا نهاية، وأنه من دون جدوى، وأن ضحاياه على الجانبين، أبرياء في غالبيتهم، وأن إنهاءه أفضل شيء يمكن أن يتم، وأن التاريخ لم يسجل في أي من مراحله أن جماعة انتصرت على دولة!
يعزز اليقين في صدق إيتا فيما أقدمت عليه، أنها كانت في عام 2011 قد بادرت وقررت وقف العنف من جانبها، وأنها وهي تلقي سلاحها هذا الشهر، حذرت من أن أعداء السلام يمكن أن يقفوا في طريقها، وأن يعملوا على إفشال سعيها الجاد نحو السلام.. إنه درس طازج في جدوى العنف!
ولست أريد هنا أن أدخل في جدل حول ما إذا كانت الجماعة الإخوانية، تتبنى العنف أو لا تتبناه، ولا حول ما إذا كانت قد عرفته في مراحل من تاريخها، أو لم تعرفه، ليس لأنه لم يحدث أن تبنت، ولم يحدث أن عرفت، ولكن لأن الجدل حول ذلك كله يطول، ولأنه في آخر المطاف صار جزءاً من الماضي، ونحن نريد أن نتطلع إلى المستقبل، وأن ننشغل به أكثر من انشغالنا بسواه، ولو أن الإخوان أنصفوا أنفسهم، لتأملوا بجد، درس جماعة كولومبيا، ثم درس إيتا، ولأنصتوا جيداً إلى العبارة التي قالها فيهم ذات يوم، جمال البنا، شقيق منشئ الجماعة.. قال عنها إنها جماعة لا تتعلم ولا تنسى!.. إنني أريد أن يخيب ظن البنا الشقيق فيها!