عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

كي يكون التعليم وسيلة للمعرفة

كان كونفوشيوس (551 - 479 ق.م) معلماً وضع فلسفة متكاملة لأخلاق الفرد وحكومة تكون في خدمته في فترة «الربيع والخريف» الصيني (771 - 403 ق.م). قال: «خطط لعام بزرع الأرز، ولعشر سنوات بزرع الأشجار، ولمائة عام بتعليم الأطفال».
أحمد شوقي بك (1868 - 1932)، شاعر البلاط ومُطوِّر المسرح الشعري بمسرحيات كـ«قمبيز»، و«كليوباترا»، و«مجنون ليلي»، له بيت بمفهوم مشابه:
قُم للمعلِّم وفِّه التبجيلا
كاد المعلِّم أن يكون رسولا
يجعلني أقف احتراماً لذكرى معلمي في المرحلة الابتدائية في كل مرة أتلقى تهنئة من أحد على إنجاز قمت به.
عبّر أمير الشعراء في عصر نهضة مصر (منتصف ستينات القرن الـ19 وحتى الحرب العالمية الثانية)، أرقى فترات أمة وادي النيل في العصور الحديثة ثقافة وعلماً وأدباً وفناً واقتصاداً ثم ديمقراطية، عن دور المعلم.
فمهما اكتسب الإنسان من علم حتى ما بعد الدكتوراه، فلا أثمن هدية على الإطلاق قدمها من «كاد أن يكون رسولا» إلى الطفل، ما تمكن الأخير من وضع قدميه على طريق المعرفة أصلاً.
تزاحم قولا الفيلسوف الصيني وأمير شعراء مصر في ذهني ليس فقط بمناسبة المؤتمر السنوي لأكبر النقابات في المهن التعليمية؛ الاتحاد القومي لمعلمي بريطانيا (NUS)، ومعظم أعضائه يساريو النزعة وهو على خلاف حاد، مع الحكومة ممثلة في وزيرة المعارف جستين غريننغ، ويدعمه في ذلك حزب العمال المعارض، وهذا الصراع يتخذ طابعاً سياسياً، بشأن توسيع وتعدد (ولا أقول تطوير، فذلك مستمر في بريطانيا منذ قرون) خيارات ونوعية المدارس.
ربما يلاحظ القراء توظيفي للتعبير الأصلي (في مصر والدول العربية قبل أربعة عقود) الأقرب لمفهوم التعليم ورسالته، «وزارة المعارف» وليس «التربية والتعليم». أول وزارة للتعليم، كانت نظارة المعارف عام 1863، ورأسها «ناظر» قبل ظهور كلمة «وزير»، مثل ناظر المدرسة، بمعنى أشمل، مسؤولية التخطيط، كالإشراف بكل حواسه، خصوصاً «النظر في الأمر»، والمراقبة. وكان أصلاً «ديوان المدارس» عام 1837 إعادة لتسمية مجلس شورى المدارس عام 1836، ليضم إلى جانب الابتدائية والثانوية مدارس (فيما بعد كليات جامعية)، فيما بين منتصف عشرينات القرن الـ19 وعام 1835، ومنها الجهادية (العسكرية) والصيدلة، والولادة (الطب لاحقاً) والمعادن، والفنون العسكرية، والهندسة والإنشاءات، والكيمياء التطبيقية، والصناعات، والري، والزراعة، والخيول الملكية (الطب البيطري لاحقاً) والحقوق. كان أول ناظر (وزير) للمعارف علي باشا مبارك (1824 - 1893) الذي درس في فرنسا (1844 - 1849) بعد تخرُّجِه في مصر. وزارة المعارف أقرب لمفهوم التعليم المتقدم لتنمية معارف الطفل وتوسيع مداركه، لأن حب الاستطلاع والاستكشاف غريزة طبيعية وفق نظرية المعرفة Theory of Epistemology، أي توفير أدوات الدراسة ووسائلها، كأعمدة جسر تمتد فوقه الغريزة الطبيعية للأطفال نحو التطور عبر المعرفة وتنميتها، وهي تختلف عن «التعليم» وأكثر اتساعاً. أما إضافة كلمة «التربية» لكلمة «التعليم» (فتعطي العبارة مفهوماً مختلفاً عن المعنيين للكلمتين منفصلتين). «التربية والتعليم» مفهوم توجيه من بيده الأمر لمتلقين لمعلومات، تقرر القبول بصحتها مسبقاً بشكل مطلق لا يقبل التشكيك، وليس بمفهوم المعرفة للبحث بغريزة الاستكشاف وحب الاستطلاع. والفارق مهم لموضوع المقال.
مدارس بريطانيا متعددة، وتسمياتها خادعة للأجانبchurch schools أو مدارس الكنيسة (بجميع مذاهبها)... ليست مدارس دينية، بل كثير من تلاميذها (غالبية في بعض المناطق) مسلمون ويهود وديانات أخرى تدرس لهم في حصة الدين ومناهجها مثل المدارس العلمانية، لكن الكنائس أنشأتها قبل مئات السنين. أما Public School أي العامة أو الجماهيرية، وتعني في أميركا مثلاً مدرسة الحكومة أو الولاية، في بريطانيا تعني المدارس الخاصة الراقية لأبناء الطبقات الأرستقراطية كـ«إيتون»، و«هارو» وهي ذات تكاليف باهظة. أما المدارس الخاصة للطبقات الوسطى (مثل الأخيرة داخلية)، فتسمى المدارس المستقلة، وهي أقل تكلفة من العامة، بينما المدارس المجانية تسمى مدرسة الدولة state school لكنها لا تتبع الدولة، وإنما تتبع المجالس المحلية.
وزارة المعارف (وميزانيتها 60 مليارًا، أي 60 ألف مليون جنيه إسترليني سنوياً) هي وزارة مركبة، اسمها department، لأنها تشمل وزارة تحتية لحماية ورعاية الطفل، أي ما دون الـ16 عاماً. وأيضاً مصالح حكومية: كالتدريب، والامتحانات العامة... إلخ). بدورها، تطورت من وزارة المعارف والعلوم والبحث، إلى وزارة المعارف والأسرة والطفل عبر العقود. فتطور مفهوم التعليم ومسؤولية الدولة عنه مستمر بلا توقف لـ1600 عام.
مهمة وزارة المعارف رسم السياسة العامة وتحديد الميزانية، ودعم مدارس لا تتبع الحكومات المحلية (كمدارس الإرساليات ومدارس الأقليات ومعاهد تعليم الكبار المسائية)، أما تفاصيل الدراسة فمتروكة للمدارس. لكل مدرسة ما يُسمى هيئة التحكيم Board of Governors من حكماء ومهنيي الحي، كالطبيب، ومدير البنك، وراعي الكنيسة، ووجهاء المنطقة.
محل الخلاف هو قرار حكومة تيريزا ماي بمنح تراخيص ومنح مادية من وزارة المعارف، للتوسع في إنشاء نوع آخر من المدارس المجانية كانت الحكومة العمالية أغلقت معظمها، ومنعت إنشاء الجديد منها في الستينات. مدارس «الغرامر» (Grammar)، والمعنى «قواعد اللغة» لكنها لا تعني الاسم حرفياً، وإنما هي مدارس يعود تاريخها إلى عام 579م (القرن السادس) أُنشئت لتعليم اللاتينية (لغة الكتابة والقراءة الرسمية لقرون) ثم انتشرت في القرنين 14 و15، وتدريجياً أدخلت جميع المناهج. في القرن العشرين فتحت باباً للمجتهدين من محدودي الدخل، لأنها تقبل من يجتازون امتحان القبول في الحادية عشرة.
خلاف العمال والاتحادات التعليمية مع وزارة المعارف هو الآيديولوجية الاشتراكية التي ترفض التمييز حسب القدرات. فبدلاً من نقل الطفل المجتهد إلى مدرسة للمتفوقين، يخفضون مستوى التعليم ليتساوى المجتهد مع الكسول (المدارس الشاملة comprehensive أنشأتها حكومة العمال بعد الحرب الثانية، وتوسعت في الستينات وتقبل التلاميذ جغرافياً، وليس بمستوى الاجتهاد). أولياء الأمور يفضلون «الغرامر» على الشاملة، لأن معدلات النجاح في الأولى أعلى، وتحفز الأطفال على الاجتهاد، وارتفاع مستواها التعليمي يدفع الأخيرة إلى التنافس برفع المستوى.
الفكر المحافظ يجعل الأولوية لحرية الفرد في الاختيار والاستقلالية المحلية، بينما الفكر الاشتراكي الشمولي يضع الدولة المركزية قبل الفرد بمفهوم: «المسؤولون أكثر دراية من المواطن».
كفارق مفهومي «المعارف» و«التربية والتعليم» الذي يحتاج لتطور يمنح عقل الطفل أدوات التفكير المستقل، حتى لا يكبر إلى بالغ يبحث عن «المربي المعلم» الذي اعتمد عليه صغيراً، فيجد «مربياً» داعشياً أو إخوانجياً «يعلمه» ما يسوقه إلى ما قبل عصر النهضة.