سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

في بلاد الخبز والجبن

تحملني الأسفار كل عام تقريباً إلى جبال الألب. وإذا كنت تسافر في أوروبا براً، فالألب مثل صنعاء في قصيدة الإمام الشافعي، لا بد منه. يطل الألب على القارة من كل مكان. ونعبر الآن أنفاقه الطويلة بالسيارة، والأضواء التي تشق العتم، نتذكر أن هنيبعل عبر قممه على الأفيال طالباً رأس روما ومجدها. وبعد عقد من الحصار والكرّ، خذله عدد الأفيال التي معه، فهزم وحزن، لكن محاولته ظلت إحدى بطولات الحروب التاريخية. وقاهر الألب الآخر كان نابليون، ومعه 40 ألف جندي. وهو أيضاً عبقرية حربية كبيرة، وهزيمة كبرى في نهاية الطريق.
ونحن لا هذا ولا ذاك. فكل مرادنا من رحلة الألب شيء من الخبز والجبن، التي اشتهر بها أهل أوديته. وما زلت أعجب كيف يقطن الألبيون هذه الأودية السحيقة، يقطنون سفوح الجبال والتلال التي تبدو في الليل قطعة من نجوم السماء سقطت وتناثرت فوق بقع تصعب على المخيلة، لكن يبدو أنها لا تصعب على الإنسان الذي يطلب سكناً ورزقاً. وإذ يصل ويبني ويزرع ويرسل الماشية على حفافي الصخور، يكتشف أن ثمة إنساناً آخر يريد منزله الخشبي وقطعان الأبقار. على مدى قرون تقاتل الأوروبيون عبر الألب، كما تقاتلت شعوب الأرض في الصحاري والبحار والأجواء. والجبال في مكانها، صخور رهيبة الأحجام تغطيها الثلوج، فيسهل على الشجر أن ينبت مكانها، ويكون من الماء حياة حتى حيث يصعب على الطيور أن تحلّق وعلى النسور أن تصيد.
هذه السنة جئت إلى الألب الفرنسي، وقد شاهدت قبل أشهر الجزء الثاني من «كوكب الأرض» الوثائقي الذي صوّره السير ديفيد اتنبورو وفريقه المذهل بين أعالي هذه الأعالي. لم أرَ في حياتي فن التصوير الحقيقي يبلغ هذه الذروة التي تجاوزت ذروة الألب. أو أي ذروة أخرى.
لعلني أشرت إلى ذلك في زاوية سابقة، فأرجو المعذرة على طاقة الذاكرة. إن حياة الإنسان والمخلوقات الأخرى فوق هذه الهوائل الجبارة، أمر مذهل رغم ما صار يبدو عادياً. عالم بأكمله يعيش من الثلوج وفصلها القصير. بائع الحليب، وبائع الخبز، وبائع الصحف. وبعكس كل المناطق الأخرى، تفرغ هذه القرى عندما يبدأ الربيع، فتقفل المقاهي والفنادق، ويذهب العمال والموظفون إلى مناطق الشمس كي يكملوا هناك عمل السنة. وفي الشمس تبدو الحياة أكثر سهولة، والأرض أكثر انبساطاً، والناس أقل تبرماً بهذه السلسلة الهائلة من الجبال، التي تبدو مثل أسر هائل معلق بين السماء والأرض.