إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

حبذا لو تكون بداية النهاية

بعيداً عن صخب الإدانة «القومية» التكاذبية. بعيداً عن التباكي على «سيادة» مشكوك في وجودها منذ تحوّلت سوريا إلى صندوق بريد إقليمي ودولي. وبعيداً عن جعل حق الإنسان بالعيش، بل بمجرد التنفّس، في أسفل الأولويات التي تثرثر بـ«ممانعة» زائفة و«عروبة» فولكلورية...
بعيداً عن كل ذلك، ينبغي القول إن المسؤول الأول عن تعرّض تراب سوريا للانتهاك هو مَن لم يؤتمن عليه يوماً، ولم يُقِم لسلامة المواطن وكرامته وزناً.
أنا لست من محبّذي الاستقواء بالأجنبي. وحتماً، لست من الشامتين بنكساتنا وهزائمنا. ولا من الداعين إلى اغتصاب أراضينا، وتشريع أبواب ما يفترض أن تكون «أوطاننا»، لا معتقلات مخصّصة لتدجين الناس وإذلالهم، أمام الأجانب.
إطلاقاً. أنا ممّن تؤلمهم كثيراً «نزهات» الطيران الحربي الأجنبي - من كل الجنسيات - فوق ديار العرب، التي سلبها من أهلها بعض أهلها... لا «العدو الغاصب» الذي هاجمناه لفظاً لقرابة 70 سنة. ويسوءني جداً عجز هؤلاء «البعض» عن التصدّي له، بينما يتقنون بحكم العادة والوراثة التصدي للمواطن المسكين عندما يهبّ للمطالبة بأبسط حقوقه الإنسانية.
بعد الضربات الأميركية على قاعدة الشعيرات الجوية في محافظة حمص، التي كانت لسنوات خلت من منصات الموت المصبوب على مدن سوريا وقراها، سمعت أصواتاً عربية مستنكرة، تتصرّف على أساس أن القتل بشتى الأسلحة خير وسيلة لـ«التحاور» مع الاحتجاجات. والأدعى إلى السخرية تصوير هذه الأصوات الضربة الأميركية على أنها:
أولاً، اعتداء على «سيادة» سوريا، وكأن سوريا تبدأ وتنتهي بنظام يساوم حتى في هذه اللحظة مع قوى على ترتيبات تقسيمها وفرزها دينياً ومذهبياً وعرقياً، ويرعى عملية تبادل سكاني ممنهجة برعاية دولية.
وثانياً، أنها «عقاب» للنظام على «وقوفه ضد احتلال إسرائيل لفلسطين»، كما أتحفتنا بالأمس الدكتورة بثينة شعبان.
الحقيقة، أن ثمة علاقة تبادل منافع مشبوهة بين النظام السوري وداعميه (على رأسهم إيران) من جهة، وتنظيم داعش وأمثاله من الجماعات المتطرفة التي لم تؤمن أساساً بانتفاضة الشعب السوري، ولم تناضل في صفوفها، بل قاتلتها وعملت على شرذمتها وتفجيرها من الداخل في كل مناسبة.
هذه الصورة كانت متوافرة للولايات المتحدة والدول الغربية. واشنطن، بالذات، كانت تعرف كثيراً عن الوضع السوري إبان حكم الرئيس السابق باراك أوباما، غير أن أولويات أوباما كانت في مكان آخر.
كان التفاهم الاستراتيجي مع إيران في رأس اعتباراته. وفي هذا السبيل كان مستعداً - على رأس أركان إدارته ومستشاريه - للتضحية بالشعب السوري، وبحلفاء واشنطن وأصدقائها في الشرق الأوسط، من أجل إرضاء طهران، وتركها تتمدد في المشرق العربي من جبال زاغروس إلى شاطئ المتوسط الشرقي، ومن مياه الخليج إلى مضيق باب المندب.
على امتداد 6 سنوات من عمر «الانتفاضة الثورة»، وبالذات منذ 3 سنوات منذ انكشاف حقيقة موقف أوباما، تلقى نظام بشار الأسد وداعموه في طهران وموسكو كل الطمأنة اللازمة لكي يصعّد عسكرياً، ولا سيما في ظل استمرار:
أولاً، رفض واشنطن فرض «ملاذات آمنة» و«مناطق حظر طيران» لردع النظام وحماية المدنيين المهجّرين والنازحين، على وقع استخدام روسيا والصين «الفيتو» تلو «الفيتو» ضد اتخاذ المجتمع الدولي إجراءات لمنع النظام من قتل الناس.
ثانياً، رفضها بإصرار، رغم المناشدات المتكرّرة، تقديم السلاح النوعي المطلوب لمواجهة ترسانة النظام، المخدومة عبر جسر جوي دائم من موسكو.
ثالثاً، رفضها اتخاذ أي موقف جدّي حازم من التدخل العلني النشط للميليشيات التابعة لإيران، التي أسهمت في مفاقمة الاستقطاب الطائفي وغذّت نوازع الإحباط واليأس، وبالتالي، التطرّف... في نفوس المواطنين.
رابعاً، رفضها دعم خيارات الاعتدال والانفتاح داخل الانتفاضة السورية عبر الإجراءات آنفة الذكر، ثم التذرّع - بعد ذلك - بأن المعارضة «عاجزة»... عن مواجهة النظام. وبعدها العمل على تشجيع الميليشيات الانفصالية، ليس على حساب وحدة أراضي سوريا فحسب، بل أيضاً وحدة أراضي جاراتها، وبالأخص، تركيا.
خامساً، رفضها التحسّب، ثم التصدي للتدخل الروسي المباشر الذي بات اليوم حقيقة واقعة في مناطق متعددة من سوريا. ولقد أسهم هذا التدخل في مضاعفة محنة التهجير - ولا سيما بعد مأساة حلب - وإعطاء هذه المحنة أبعاداً دولية انعكست مآسي إنسانية وصعوداً لتيارات اليمين العنصري المعادي للأجانب في أوروبا.
بناءً عليه، أدت إدارة باراك أوباما، التي امتنعت حتى عن «ردع» الأسد، إلى تشجيع طهران وموسكو على تولّي زمام المبادرة في الشرق الأوسط، وإضعاف مواقف قوى كانت ترى في الولايات المتحدة صديقاً إن لم يكن حليفاً. والمؤلم في الأمر، أن هذه السياسة السلبية جعلت الكلفة الإنسانية والسياسية في سوريا باهظة، وإمكانية تغليب لغة الاعتدال على التطرف ضعيفة. ومن هنا، يمكن القول إن لجوء الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترمب إلى قصف المطار الذي انطلق منه أخيراً الطيران الحربي حاملاً الغازات السامة لأهالي خان شيخون، يشكل بداية ردع.
كل ما كان مطلوباً من واشنطن أيام أوباما «الردع» الذي لم يأتِ. ردع آلة الموت والتهجير ورُعاتها ومحرّكيها.
وهذا يعني أنه لا يجوز أن تظل الضربة ردة فعل عابرة، بل يجب أن تكون مقدمة لاستراتيجية حقيقية، تتعامل بواقعية وصراحة مع قوى ثبت بالدليل القاطع أنها لا تقيم وزناً للحوار والتفاهم والتعايش وحقوق الإنسان.
لقد واصل نظام الأسد وداعموه مسلسل القتل، خصوصاً بعد إعلان واشنطن أن إزاحته ما عادت أولوية لها. وهذا يعني أنه لا نفع يرتجى من أي حوار معه. إذ لا يمكن القضاء على التطرف الداعشي إلا عبر دعم خيار الاعتدال، ولا فرصة أمام الاعتدال إلا بإزاحة من استغل غول التطرف، ودفع المظلوم واليائس إلى السكوت عنه.
باختصار، إنهاء هذا النظام ليس مطلوباً «كرمى لعيون» دونالد ترمب، بل احتراماً لذكرى الأطفال حمزة الخطيب ووسيم زكّور وإيلان الكردي وآية وأحمد عبد الحميد اليوسف... واحتراماً لدموع عمران دقنيش... وآلام كل أم وأب وأخت وأخ على امتداد سوريا.