نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

{حماس} على خطى {فتح}

بدأت طائرة حماس هبوطاً تدريجياً نحو المطار الذي هبطت إليه طائرة فتح منذ عقود، ذلك يُستدل من البرنامج الجديد الذي سربته حركة حماس، واتسم باعتدال أكثر وضوحاً مما سبقه من «اعتدالات» كانت تقدم تارة على ألسنة قادتها، وأكثر الذين تحدثوا بلغة معتدلة كان رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، على مستوى آخر كان القيادي النشيط في مجال الإعلام الدكتور أحمد يوسف.
ورغم ردود الفعل المشككة في صدقية العبارات المعتدلة في البرنامج الجديد، فإن تحليلاً يتعدى منطوق الكلمات إلى الواقع الموضوعي، يشير إلى أن تغيراً في الخطاب قد حدث بالفعل، وأن حماس الإخوانية تسير على خطى فتح الفلسطينية، ولا فرق بين التوأمين السياميين، في أمر التشدد والاعتدال، فمن يقرأ أدبيات فتح أيام انطلاقتها الأولى، يلمس تشدداً يبدو بصياغاته ويقين معتنقيه بأن لا أمل في تغييره أو التخلي عنه.
بدأت فتح بمشروع إنهاء الكيان الصهيوني، واعتمدت مبدأ أن الصراع معه صراع وجود لا حدود، وكان لها موقف جذري برفض كل ما يمت للتسوية بصلة، حتى لو صدر عن زعيم كبير هو جمال عبد الناصر.
وحين كبرت فتح، وكبرت معها منظمة التحرير، وبدأ الحوار الدولي معها كقوة سياسية وكعنوان للفلسطينيين، بدأت رحلة التخلي عن الأدبيات المتشددة. في البداية لم تتقن أداء واجبات الاعتدال، حين ظنت أنها ستدخل المعادلة الدولية بعد أن تبنت برنامج النقاط العشر الذي سُمي في حينه بالبرنامج المرحلي.
تولى العالم آنذاك مهمة تدريب الحركة الثورية على التقيد بأدبيات الاعتدال المقنع للآخرين، فطُلب إليها أن تلغي كلمة المرحلي لمصلحة نقطة آخر السطر.
كانت كلمة المرحلي موحية بالتشدد ولم يشترها أحد كبرهان على الاعتدال، فالمرحلي يعني قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت في عام 1967، أي أن النهائي لا يزال إبادة الدولة العبرية.
اقتنعت فتح بمنطقية النصائح التي قدمت لها، فأسقطت في المجلس التالي كلمة المرحلي، واعتمدت مبدأ لا يزال ساري المفعول، مفاده أن الشعب الفلسطيني سيقيم سلطة وطنية على أي جزء من الأرض يندحر الاحتلال عنه.
كانت تلك انعطافة نحو واقعية واعتدال أوصل إلى مصالحة تاريخية مع إسرائيل، دشنتها تفاهمات أوسلو والاعتراف المتبادل، والمصافحة الحارة بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض.
لم يكن هذا المشهد ليتخيل في الأدبيات الأولى، فهكذا هي السياسة؛ تشدد يفضي إلى اعتدال، واعتدال ربما يفضي إلى الهدف.
هذا هو حال حماس في رحلتها قصيرة الأمد نحو الاعتدال، وفي السياسة أيضاً لا فرق بين اعتدال طوعي يقوده تطور الوعي، وبين اعتدال اضطراري تفرضه الحسابات.
حين نظرت حركة حماس لواقعها وتحالفاتها ومصالحها، كان لا بد، وهي محقة في ذلك، من إعلان الانفصال عن الأم، فما حاجتها لاندماج مع حركة صارت عبئاً هي الإخوان المسلمون، وصارت سدّاً يحول بين حركة حماس في غزة والدولة المتحكمة بمعبرها الوحيد إلى العالم... مصر.
وحين حللت طبيعة علاقاتها مع تركيا الدولة الإقليمية العظمى، وتفهمت ولو على استحياء العلاقة الاستراتيجية التي تربط دولة الخلافة بالدولة العبرية، وجدت حاجة لها في دفع ضريبة اعتدال، تساعد حلفاءها على تسويقها عند الذين لا يزالون يحجمون عن مجرد الحديث معها.
وفيما يتصل بالحقوق الفلسطينية التي طرحت حماس شعار المقاومة من أجل تحقيقها، فقد وجدت، وهي واقعية في ذلك، أن باستطاعتها تبني جزء من حل الدولتين دون القبول بشرط الاعتراف بدولة إسرائيل، وهذه صيغة تتماهى فيها مع المعادلة الدولية، وتحفظ خط الرجعة وماء الوجه بعدم الاعتراف بإسرائيل، وهذا ما تولت القيام به منظمة التحرير نيابة عن الجميع.
كارهو حماس قرأوا برنامجها الجديد على أنه خدعة وتحايل، أو أنه نكوص عن مبادئ كانت مقدسة، ومع أن السياسة تحتمل هذين التفسيرين، إلا أن الوقائع المشابهة والهبوط التدريجي يرجحان حقيقة أن هنالك جديداً، وأن هذا الجديد بحاجة إلى تظهير أوضح واستكمالات ضرورية، ليس بالضرورة أن نشاهد السنوار أو هنية يصافحان نتنياهو ويتفاهمان معه، فهذا ليس مطلوباً ولا ضرورياً في كل الظروف، لأن المطلوب الذي يفيد ويقنع، أن تقول حماس جملة واحدة قد تكون المفتاح السحري الذي يعالج الأبواب الموصدة، هم يعرفونها... «تلتزم حماس بما التزمت به منظمة التحرير».