حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

«الرابطة» وضربة معلم

منطقي أن يحصد مؤتمر أُسس على الإثارة والإقصاء والبلبلة وتفريق الوحدة وخلخلة الصف ومحاربة الإقصاء بإقصاء مثله على شهرة وردود فعل واسعة سواء أكانت مع أو ضد، فعامة الناس تتلمس أماكن النزاع ومواطن المنازلات، لكن ما ليس طبيعياً أن يحصد مؤتمر منزوع من دسم الإثارة وخلق البلبلة وتفكيك الصفوف على اهتمام واسع ومتابعة وردود فعل تجاوزت الحد الطبيعي للمؤتمرات التقليدية المعتادة، وهو ما حصده مؤتمر «الاتجاهات الفكرية الحديثة بين حرية التعبير ومحكمات الشريعة» الذي نظمه المجمع الفقهي، وهو من الأذرع المهمة لرابطة العالم الإسلامي، مؤخراً وتشرفت بحضوره. المؤتمر بلونه التعددي الموزاييكي، وبحوثه الرصينة، ومداولاته الساخنة وملامسته لعدد من الجروح الفكرية النازفة، وأخيراً بيانه الختامي المحبوك المسبوك؛ كل هذه العناصر جعلت من هذا المؤتمر نوعياً ومختلفاً.
إحدى رسائل المؤتمر المهمة، أو هكذا قرأتها، جاءت رداً عملياً على مؤتمرات التهييج وشق الصف والإقصاء وسكب الزيت على النيران المذهبية المتوقدة، حتى جعلت من نفسها سادناً يمنح شهادات النجاة لأقوام ويحجبها عن أقوام، وقد ذهب مؤتمر رابطة العالم الإسلامي في إحدى توصياته إلى حد التصريح بـ«الاستمساك باسم المسلمين وهو ما سماهم به القرآن، والتحذير من الأسماء والأوصاف الأخرى التي من شأنها الإساءة لهذا المسمى الجامع الحاضن»، وهل يعني هذا الدعوة إلى إلغاء المسميات المذهبية التاريخية «السنة، الشيعة، الصوفية، المالكية الشافعية الحنابلة الحنفية،... الخ»؟ يأتي الرد المركّز في إحدى فقرات بيان المؤتمر حيث يقول: «هذه من الأوصاف الكاشفة التي أقرها علماء الإسلام سلفاً، وأنها ليست بديلة ولا مزاحمة لاسم الإسلام الجامع»، وهذا فرز دقيق متوازن لا يجعل مسمى المذهب المحصور يطغى على المسمى الكبير المطلق الذي ينظم عقد المسلمين جميعاً.
وفي تقديري أن الرسالة المهمة الأخرى للمؤتمر التي عززها وجود «ألوان الطيف» للمشاركين والحضور، هي تدشين مرحلة وحدوية ائتلافية جديدة، وهي مرحلة ما بعد الثورات العربية التي منيت بانتكاسات، جعلت السواد الأعظم من الشعوب العربية على قناعة راسخة بأن الثورات التي أكلت أخضر كياناتها ويابسها ليست الحل لأزماتها ومشكلاتها، هذه المرحلة الثورية القاتمة أفرزت استقطاباً عنيفاً وإقصاء صارماً يستخدم مسطرة تصنيفية حادة، أضفت على شريحة من الناس أوصافاً ليست فيهم، تعززها نزاعات سياسية أكثر منها فكرية، ظاهرها الحرب على التشدد والإرهاب، وباطنها خصومات لحظية ونزاعات حزبية على السلطة.
وقد أشار الصديق الدكتور زياد الدريس في مقاله الأخير «عاصمة التعددية» في صحيفة «الحياة» إلى التصنيف بعبارة مركزة، فقال: «هو نتاج طبيعي لأحادية التفكير والرأي. ويتم هذا وفق آلية بسيطة وواضحة: فإذا كان رأيك لا يوافقني فإني عوضاً عن مناقشتك حوله أو التعايش معه كرأي آخر، أقوم بحيلة تصنيفك، وهو ما سيجلب لي مناصرين لخوض (الحرب) ضدك وليس ضد فكرتك فقط».
الخلاصة أن رابطة العالم الإسلامي تسير في الطريق الصحيح، وتضع المبضع على الجرح النازف، وترد الإقصائيين بالعمل لا القول، وتُكتل الفرقاءَ وتبقيهم على تنوعهم، وتحشد الجميع لخوض المعارك الكبرى مع الإرهاب، والتشدد، والتصنيف، والقوى «الطائفية» التي تهدد السلم في المنطقة برمتها.