عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

التفاوض مع خصوم أقوياء

بعد تسعة أشهر من محاولات إجهاض الجنين، رأى المولود النور، إذ أخطرت الحكومة البريطانية، الاتحاد الأوروبي بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة. حيث سلم السير تيموثي بارو سفير المملكة المتحدة الخطاب إلى رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك.
الأشهر المقبلة ستكون درساً في استراتيجية المفاوضات (خاصة لمنطقة الشرق الأوسط بصراعاتها) لها تكتيكات متعددة المستويات. العلنية والخاصة، والمسرب للصحافة؛ المراسلات الكتابية والكلمات مزدوجة المعنى والمخبأ بين السطور، ومكان وتوقيت التصريحات.
ضبط توقيت تسلم السير تيموثي الخطاب مع إلقاء رئيسة الوزراء تيريزا ماي البيان الوزاري أمام مجلس العموم.
«في 23 يونيو (حزيران) الماضي صوّت شعب المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي». أول فقرة في خطاب من ست صفحات، والمقطع الثاني بدأ بعبارة «مبكراً هذا الشهر وضع برلمان المملكة المتحدة نتيجة تصويت الاستفتاء في قرار…»، وانتهت الفقرة بـ«في 13 مارس (آذار) صدقت جلالة الملكة على القرار فأصبح قانوناً».
التوقيت بتسليم الخطاب مع إلقاء البيان باختيار المكان، أم البرلمانات وأقدمها، رسالة قوية بلغة متقنة.
البرلمان المنتخب يعكس إرادة الشعب الذي صوّت بالخروج (مقابل المفوضية الأوروبية غير المنتخبة)، وبالدهاء القانوني للمحامين البريطانيين يشددون على التركيبة الدستورية الديمقراطية للبلاد «الملكة وقعت القرار البرلماني فأصبح قانوناً». بيننا وبينكم القانون وموقف المفوضية ضعيف ديمقراطياً.
وبعكس المعتاد، تواجه البلاد خصوماً يتحالفون ضدها، بينهم قسم معتبر من القوى الداخلية يطعن الحكومة في الظهر، قوى تعتبرها بلدان أخرى طابوراً خامساً.
المعتاد أن تتوحد كل القوى الداخلية حتى المعارضون، تحت راية البلاد لمواجهة الخصوم الخارجيين في أي مكان في العالم.
لكن رئيسة الوزراء تواجه التحدي الخارجي، والقوى السياسية منقسمة، ومؤسسات صنع الرأي العام، وأكبرها «بي بي سي»، تعمل بقوة لإضعاف موقف الحكومة، وحملة لتخويف الشعب أملاً في استفتاء ثانٍ للبقاء (كما حدث في آيرلندا 2008).
تعمدت الحكومة الغموض حول الخطة وتحملت الإهانات، والتحديات في المحاكم والاتهامات بافتقارها لخطة التفاوض. وحسناً فعلت بإخفاء بعض الأوراق، فعدد لا يستهان به من النواب، خاصة الاسكوتلنديين، وكل الديمقراطيين الأحرار وبعض العمال، يريدون أن تهزم الحكومة أمام الاتحاد الأوروبي.
شبهت هؤلاء بأقلية من ركاب طائرة اكتشفوا بعد إقلاعها أنهم ركبوا خطأً رحلة متجهة إلى مكان آخر، فهاجوا ثم بدأوا ترديد الدعاء أن تسقط الطائرة فوراً! فكشف الخطة سيتحول إلى أداة في يد هؤلاء لتخريب أجهزة الطائرة في الجو.
الأوراق القوية التي كانت مخبأة كأسلحة حادة ملفوفة في حرير، برزت حوافها بين كلمات خطاب كرر عبارة المصلحة المشتركة بين الجانبين، وضرورة التعاون، لتذكر متلقي الرسالة أن أي ضرر يلحق بطرف سيكون له ضرر مماثل بالطرف الآخر.
البريطانيون يفكرون بعقل وأعصاب باردين حسب المصلحة الاقتصادية، بينما آيديولوجيو الاتحاد الأوروبي تقودهم عاطفة سياسية نحو وحدة فيدرالية أوروبية، مثل العواطف الآيديولوجية التي يقود بها انتحاري سيارته المفخخة.
في عبارتين من 35 كلمة أوصلت لندن رسالة مقنعة، لكنها تعتبر ورقة قوية وربما أهمها في يد بريطانيا.. «المملكة المتحدة تسعى للاتفاق مع الاتحاد الأوروبي على شراكة عميقة خاصة تتضمن التعاون الاقتصادي والأمني»؛ أي ربط الاقتصاد بالأمن بشقيه العسكري الدفاعي، والآخر الأمني البوليسي وما يتعلق بالإرهاب. أما إذا رفضت أوروبا هذا التعاون كما طرحته بريطانيا... «إذا تركنا الغرفة دون التوصل لاتفاق تجاري، فسنتعامل مع بلدان أوروبا حسب لوائح منظمة التجارة العالمية؛ وسيضعف مجال التعاون في مكافحة الجريمة والإرهاب». أي أنتم وحدكم أمنياً يا أوروبيون.
ولأن بريطانيا تستورد من أوروبا أكثر مما تصدر (بفارق يتراوح ما بين 60 إلى 90 مليار جنيه) يعني أن فرض الضرائب الجمركية سيضر بالقوى التصديرية الكبرى في مجالات السيارات ومنتجات الصناعات الثقيلة، من الشركات الألمانية بالتحديد.
لا توجد في أوروبا سوى قوتين عسكريتين حقيقيتين هما بريطانيا وفرنسا، ودون القوة البريطانية لا يمكن لأوروبا أن تصمد أمام تهديد خارجي كروسيا مثلا.
وزير الخارجية خفيف الظل بوريس جونسون قال للصحافيين إن بريطانيا ملتزمة بالدفاع عسكرياً عن أوروبا، وإنه يجب ألا تصبح سياسة الدفاع محل مساومة على صفقة.
هل وزير الخارجية يناقض رئيسة حكومته؟
فلننظر للتوقيت والمكان والمضمون لا ظاهر الكلمات. جونسون أدلى بتصريحه في بروكسل، على عتبة قاعة اجتماع حلف شمال الأطلسي وبريطانيا ثاني أكبر قوة فيه. السيدة ماي هي من أكدت «التزام الرئيس ترمب تجاه حلف الأطلسي»، وهي بجانبه في البيت الأبيض. الرئيس الأميركي يفضل بريطانيا على الاتحاد الأوروبي الذي لا يكن له احتراماً أو مودة، بل ويعتبر أن المفوضية الأوروبية كانت جزءاً من المؤسسة الليبرالية اليسارية الدولية التي «تتآمر» ضده. كما أنه كان مباشراً في انتقاده لألمانيا ومطالبة أوروبا بدفع فواتير حلف الأطلسي، في لقائه بالزعيمة الألمانية الذي اتسم بالبرود.
ورغم ظاهرها المعسول فإن كلمات جونسون في المكان والزمان، يلوح مضمونها بأهمية بريطانيا عسكرياً، وبمحور لندن - واشنطن القوي.
تاسك لم يرد على خطاب لندن، بل أرسل تعميماً من تسع ورقات لعواصم الأعضاء الـ27 يرفض فيه المفاوضات المتوازية، أي التفاوض على صفقة تجارية مع محادثات لتسوية الخروج أو «الطلاق» من الاتحاد، ومؤخر الصداق الذي تريده أوروبا مبلغ ابتزازي هو 60 مليار جنيه.
المواطن البريطاني سيرى في ذلك تهديداً لاستقلال بلاده وتدخلاً في شؤونها، فتاسك ربط المفاوضات بقضية الحدود بين آيرلندا الشمالية والجنوبية (الأخيرة عضو الاتحاد الأوروبي)، والأخطر ربطها بجبل طارق وهي أرض بريطانية تطالب بها إسبانيا.
ظهور حكومة ديفيد كاميرون ضعيفة أمام الاتحاد الأوروبي في مطلع العام الماضي أفقده الاستفتاء ومنصبه، لأنه افتقر إلى الشجاعة والقوة لإدارة ظهره لبروكسل، عندما رفضوا الاتفاق على الإصلاحات التي طلبتها بريطانيا، فتحول إلى بائع يروّج لبضاعة غير مقتنع هو نفسه بجودتها.
المواطن يريد حكومة قوية في مواجهة بروكسل.
إذا لم تظهر رئيسة الوزراء ماي من الشجاعة والقوة ما يكفي لإقناع الأوروبيين باستعدادها لترك المفاوضات وتنفيذ ما جاء بين سطور الخطاب من الإجراءات إذا تعنتوا في صيغة الاتفاق، فسيعاقبها الناخب بمصير مشابه لكاميرون.