إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

رائحة «المسألة الشرقية» أقوى من الغازات السامة

«طمأنتنا» واشنطن بالأمس إلى أن مصير بشار الأسد ما عاد أولوية بالنسبة لها في تعاملها مع الأزمة السورية. جاءت «الطمأنة» على لسان مرجعيتين في إدارة دونالد ترمب لا مرجعية واحدة... الأولى وزير الخارجية ريكس تيلرسون، والثانية السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هايلي.
وكانت أنقرة، قبل ساعات معدودة قد «بشّرتنا» بأن عملية «درع الفرات» داخل سوريا انتهت بعدماحققت أهدافها، مع أن ما تحقق حتى تاريخ «الإنجاز المُعلن» يخالف ليس فقط تعهدات أنقرة، بل تهديداتها أيضاً، منذ صيف 2011.
وبين «الطمأنة» الأميركية و«البشارة» التركية، ترنّحت مسيرة مباحثات السلام المفقود والثقة المعدومة والنية السيئة عبر محطة أخرى من محطات جنيف السّمجة. وواصلت طغمة النظام مدعومة بـ«راعييها» إيران وروسيا تهجير السوريين ورسم معالم خريطة فرز سكاني ما عادت تخجل من تنفيذه علناً. وفي المقابل، دخل الانفصاليون الأكراد في سباق مع أنفسهم لإكمال ما أُسند لهم من دور «دولي» للإجهاز على سوريا التي عرفنا، وعُقدت صفقات تسهِّل الفرز السكاني بين «داعمين» للنظام و«معارضين» له يتسابقون على تكفير بعضهم بعضاً... لكنهم، مع ذلك، وجدوا مصالح مشتركة لهم على حساب الشعب المسكين.
قبل أيام قرأت مقالتين قيّمتين تناولت إحداهما طموح كل من تركيا وإيران لاستعادة أمجاد ماضيهما الإمبراطوري في عالم الزعامة الفعلية فيه لغيرهما. وتساءلت الثانية عن السبب (أو الأسباب) في أنه لم تهزّ العالم بعد ظاهرة اسمها «القضية السورية» على غرار «القضية الفلسطينية» و«القضية الأرمنية»، على الرغم من المآسي والمجازر المستمرة منذ 6 سنوات.
في اعتقادي، نحن إزاء جملة من العوامل المتقاطعة المتشابكة. عوامل من الواجب وعيها بصورة واقعية بعيداً جداً عن المواقف المُعلنة. أنا أزعم أننا في منطقة الشرق الأوسط بتنا في حالة ضياع كامل، انعدمت فيه المقاييس بين الهرب والهجوم، والتوسّع والتخندق، والتحصّن بالقومية لدرجة العنصرية والتسلّح بالدين إلى حدود التكفير. وإذا كان «الغياب» يختصر حال عالمنا العربي، فإن الإيرانيين والأتراك، وأيضاً الأكراد، يبدون في حالة ضياع حتى وإن كان قادتهم قد أقنعوهم بأنهم على أبواب فجر جديد في ظل غياب العرب.
مع هذا، ثمة فارق مهم بين حالتي الإيرانيين والأتراك في جانب، والأكراد في جانب آخر. في الحالة الأولى تتوسّل إيران وتركيا - على الرغم من «قومية» الهدف - الدين سبيلاً لشرعية التوسّع والصعود، بينما اختار الأكراد، في حالتهم، تقديم الخدمات الزبائنية للقوى العالمية التي هي أقوى بكثير من القوتين الإقليميتين، اللتين لم تتّفقا أصلاً إلا عليهم.
ووسط الغياب العربي المدوّي، يسعى حكّام طهران اليوم إلى إقناع الغرب، بل العالم المسيحي كله، بأنهم شركاؤه في المعركة ضد «التكفير»، أي ضد الإسلام السنّي السياسي. وفي المقابل، تسعى أنقرة - من دون نجاح ظاهر - إلى تذكير الغرب بـ«خدماتها» الأطلسية أيام الحرب الباردة. ولعل نجاح موسكو في «اختراق» المؤسسات السياسية والأمنية الغربية قد أسهم في إضعاف صدقية القيادة التركية في أميركا وأوروبا. ومعلومٌ، أن في الذاكرة المسيحية والقومية لروسيا عداء وجودي لأي قوة مسلمة، وسنّية بالذات، على تخومها الجنوبية. والحال، أن خطب الرئيس رجب طيب إردوغان، في كل مناسبة تقريباً، لا تساعد على دفن ذكريات «حصار فيينا» أو «المسألة الشرقية»... أو دفع الأوروبيين لتناسي ما يعتبره عنصريوهم هذه الأيام «القنبلة السكانية» الإسلامية الموقوتة.
لقد أثبت الإيرانيون أنهم أبرع من جيرانهم الأتراك في مجال العلاقات العامة. أبرع بكثير على الرغم من «العنتريات» الموسمية حول إزالة إسرائيل عن الوجود. أصلاً، إسرائيل نفسها لا تصدّق تلك «العنتريات» وتدرك أنها مخصصة للاستهلاك المحلي. والسبب أن إيران التي تتباهى راهناً بأنها تحتل اليوم 4 عواصم عربية وتهدّد عواصم أخرى، لم تهاجم إسرائيل ولو مرة واحدة. غير أن، القيادة الليكودية مرتاحة للتهديدات الإيرانية؛ أولاً: لأنها تبرّر لها التعجيل بتصفية أي كيان فلسطيني مستقبلي قابل للحياة، وثانياً: تضمن لها دوام الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الأميركي.
أكثر من هذا، فإن وجود إيران قويّة تعربد في العالم الإسلامي على هواها، وتصطنع تنظيمات سنّية إرهابية تخدمها في استراتيجية العلاقات العامة، وتشوّه الإسلام السياسي السنّي، مسألة مفيدة جداً لإسرائيل والغرب. فالعداء السنّي - الشيعي الذي تسعى إليه طهران، وتنفخ في رماده، هو أضمن وصفة لحرب أهلية إسلامية على امتداد العالم.
وهذه الأيام، بالتوازي مع التعقيدات المأساوية في الشرق الأوسط، تتصاعد أصوات الكراهية والعداء للأجانب، وبالأخص للمهاجرين... وبالذات المسلمين منهم. ومن دون التساؤل حول أيهما السبب الأبرز... أهو العنصرية الغربية التي أسّست لعصور الاستعمار ومن قبلها لحملات الفرنجة (التي سمّاها الأوروبيون «الحروب الصليبية»)، أم الفتح الإسلامي الذي بلغ وسط أوروبا أو التعايش الصعب بين المسلمين و«الحكم المدني»... ولا سيما هذه الأيام.
أحسب أن للجانبين مبرّرات كافية للخوف والطمع. فالغرب المسيحي يواجه ضموراً ديموغرافياً، ويهدد نفوذه العالمي بروز قوى غير غربية وغير بيضاء وغير مسيحية، وفي الحالتين فاقمت «العولمة» وضعه وزادته حرجاً؛ إذ سقط ملاذ «الدولة القومية»، وخفت بريق «الرأسمالية»، وما عادت «الديمقراطية» مصطلحاً إجماعياً، وكذلك مفهوم «فصل الدين عن الدولة».
في المقابل، يدرك الآخرون، خارج الغرب المسيحي، أنهم باتوا خارج لعبة كونية كانوا قد قبلوا من قبل - ولو على مضض أحياناً - بأنظمتها وشروطها. فهم ارتضوا بديمقراطية بعيدة عن مفاهيمهم، ورأسمالية غريبة عن تراثهم، وعلمانية لم يستوعبوا كل أبعادها وتبعاتها. لكن في حين نجد أن القوى الآسيوية تتأقلم بصبر وحنكة مع التناقض الحاصل، زجّ «الرفض العبثي العنيف» المسمى اليوم «إرهاباً»، بالمسلمين وخصوصاً السنة، في صراع إلغاء مع الغرب والعالم.
لقد وفّر هذا «الإرهاب» للطرف المقابل، ليس الأعذار لممارسة العنصرية والتمييز ضد المسلمين فحسب، بل برّر له أيضاً استخدام كل الأسلحة ضدهم... وصولاً إلى الاستخفاف بحقوقهم وإنكار إنسانيتهم وإهمال أعدل قضاياهم.