خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الولائم الفيصلية

عندما تسنم الملك فيصل الأول ابن الحسين عرش العراق وجد نفسه غريباً في هذا البلد. لم تكن له أي علاقات بالعشائر العربية أو الكردية. ولكنه، رحمه الله، كان رجلاً سياسياً في تعامله. هذا ما عرف عنه. سعى للتقرب للعراقيين بدعوة زعمائهم وقادتهم ومفكريهم وشعرائهم لتناول العشاء أو الغداء معه في وليمة ملكية. وكان في ذلك من وحي التقاليد العربية الأصيلة.
سمع بالخلاف المستمر بين الشاعرين الرئيسيين في العراق، جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي. كان يكره أحدهما الآخر لأسباب عميقة ترجع إلى العهد العثماني. الزهاوي معروف بالتقرب لأولي الشأن والرصافي معارض لهم. فكر الملك فيصل بالجمع بينهما لتجاوز خلافاتهما وبالوقت عينه للتقرب من هذين العملاقين للشعر العراقي. دعاهما لتناول العشاء معه على مائدة ديك رومي محشو بالرز واللوز والزبيب.
جلس كل منهما مقابل الآخر. ومد الزهاوي يده، أو ربما كلتا يديه، وأخذ يعب ويلتهم الرز، فسقط الديك المحشو نحوه، فأنشد وقال:
عرف الفضل أهله فتقدما...
وهنا عاجله الرصافي وأكمل له بيت الشعر قائلاً:
كثر النبش تحته فتهدما!
وانطلق الثلاثة في ضحك ودود ومؤدب.
لم تفلح مبادرة الملك في الجمع بين الشاعرين واستمرا على عادتهما في السخرية والنيل بعضهما من بعض. كان من أسباب ذلك تعلق الزهاوي بالبلاط في حين كان الرصافي مناقضاً ومنتقداً. شعر الملك فيصل بسلبية معروف الرصافي في نظرته نحو السدة الملكية. وكان الشاعر قد قال في صاحب العرش بيتاً اشتهر وذاع بين العراقيين، وعز على الملك فيصل الأول أن يلتزم الصمت حياله ولا يعاتب الرصافي عليه. في ظروف أخرى يعتقلون الشاعر ويزجونه في السجن عقاباً على ما أفضى به. ولكن الملك فيصل الأول كان سياسياً ومتسايساً؛ بدلاً من اعتقال الشاعر وجه الملك دعوة إليه لتناول العشاء معه في بيته المطل على نهر دجلة. انتهز الملك هذه الفرصة ليعاتب الشاعر، فتوجه إليه وقال: يا سيد معروف، ألا ترى أن البلد غارق بالمشكلات وعصيان العشائر ومطالبات الشعب وأنا أجاهد لحلها وتقول عني أن ليس لي شأن فيها ولا أفعل شيئاً؟
«عسى ألا تكون كذلك»! أجابه الشاعر وذاع خبر جوابه بين المثقفين والوطنيين.
وكان من الولائم الفيصلية التي أرسى تقاليدها لمن بعده إقامة وليمة عامرة لخريجي الكلية العسكرية حال تخرجهم منها سنوياً.