محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«الخمسة الكبار» في شخصيتنا

عندما خسر الألمان الحرب العالمية الأولى، تبين لهم أن مما كان ينقصهم هو آلية اختيار جيدة للقيادات في صفوف جيشهم الجرار. من هناك جاءت بواكير ثورة في عالم تقييم الناس وفق معايير ثابتة. فأسس الألمان مركزاً لاختيار القيادات عبر مجموعة من الأسئلة والملاحظات التي تنبثق من محاور محددة مكتوبة.
بعد ذلك بدأ في الولايات المتحدة ثلة من الباحثين، في محاولة غير مسبوقة، بتجميع كل المفردات أو الصفات في قواميس اللغة التي تصف شخصيات الناس فبلغت نحو 18 ألف كلمة. ثم انتقوا منها أربعة آلاف كلمة تصف الصفات المركزية والمستقرة. بعدها جاء باحثون آخرون في حقبة الأربعينات لتحليل هذه القائمة بنظام إحصائي متقدم آنذاك لتحديد العناصر الأساسية التي تحدد الاختلافات بين الناس فقلصها إلى 200 كلمة.
وبعد سنوات تراكمت في مطلع التسعينات دراسات عالمية واسعة النطاق، من بلدان عدة، أكدت وجود خمسة أبعاد dimensions أو عناصر أساسية لشخصيات البشر. الأمر الذي لا يتماشى مع ما كان شائعاً في حقبة العلماء السابقين أمثال فرويد وغالتون من أن شخصيات الناس يمكن تحديدها عبر شكل جمجمة الإنسان وغيرها.
فهذه الأركان الخمسة، مهدت الطريق نحو أرضية مشتركة وعلمية في تقييم الناس، وإن اختلفت مسميات الاختبارات والشركات، إلا أن الجيد منها مبني على الـ«Big Five» أو «الخمسة الكبار»، وهي الانفتاح، والاجتماعية، والتوافق، والاضطراب (أو القلق)، والضمير أو الوعي. ويقيس العلماء مدى ارتفاع درجة الشخص وانخفاضها في كل عنصر.
وهي كلها عناصر عملية مغروسة في شخصياتنا؛ فعنصر «الانفتاح» مثلاً تبين فعلياً أنه يمكن قياسه من خلال فضولية الإنسان، ومدى رغبته في الإصغاء للأمور الجديدة أو الغريبة أو التجارب وغيرها. وكذلك الحال مع «الاجتماعية» أو درجة مخالطة المرء للآخرين واندماجه في مجتمعه ومدى متانة إصراره وثقته بنفسه ومشاعره الإيجابية وفعاليته.
ليس هذا فحسب، فقد أظهر العلماء أدلة كثيرة بأننا يمكن أن نقيس أيضاً درجة «اضطراب» الإنسان أو قلقه ومدى قابليتنا للتعرض للمشاعر السلبية وعدم الانسجام مع المحيطين بنا.
وكما نقيس طولنا وقصرنا يمكن أيضاً أن نقيس ما هو أصعب مثل «الضمير» أو الوعي، وهي سلوكياتنا المتعلقة بضبط النفس، والحذر، والتعمد، والتنظيم والتعليمات التي نوجهها للآخرين وغيرها. وليس هذا فحسب فحتى «التوافق» مثل مدى تمتعنا باللطافة والكياسة مع الناس وحسن معشرنا وثقتنا بهم ومساعدتهم... كلها أمور أصبحت قابلة للقياس وهو ما صار يدركه علماء النفس.
وهذا ما يدفع كبريات الشركات إلى تبني هذه الاختبارات في «فلترة» المتقدمين للوظائف. وإن كنت أعتقد أن الحكم المطلق على الفرد يجب ألا يكون محصوراً بقصاصة ورقية فقط وإن كان هذا الاختبار يعطي مؤشرات مذهلة عن عناصر كامنة في شخصياتنا.