سلمان الدوسري
كاتب وصحافي سعودي. ترأس سابقاً تحرير صحيفة «الاقتصادية»، ومجلة «المجلة»، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عضو مجالس إدارات عدد من المؤسسات والشركات والهيئات الإعلامية.
TT

«الإنترنت»... المصباح السحري للمتطرفين

قبل أيام قليلة فقط من هجوم لندن الإرهابي، كشف تحقيق مثير لصحيفة «التايمز» البريطانية، أن عددا من المتطرفين لديهم فيديوهات على موقع «يوتيوب» الشهير، تظهر بها إعلانات متنوعة لوزارة الداخلية، والقوات الملكية البحرية، وسلاح الجو الملكي، وهيئة النقل في لندن، وغيرها من الوزارات والهيئات الحكومية البريطانية، وهو ما يعني أن دافعي الضرائب في بريطانيا يمولون، عن غير قصد، متطرفين من خلال الإعلانات التي تظهر على موقع «يوتيوب»، وفي الساعات التي أعقبت الهجوم، عثرت صحيفة «ديلي ميل» في «غوغل» و«تويتر»، على أدلة إرشادية يتضمن أحدها قسما يشرح كيفية استخدام السيارات كأسلحة، حيث نشر متشددون هذا الدليل قبل عام، نعم عام كامل استمر هذا المحتوى على الإنترنت مشاعا لكل المتطرفين، أي قبل هجمات مماثلة بالسيارات وقعت في كل من نيس وبرلين، وأسفرت عن مقتل وإصابة العشرات، وتتضمن هذه الكتيبات تعليمات مفصلة عن إحداث الفوضى. هذان الخبران كافيان ليعطيا مثالا صارخا على الكيفية التي تغلغل بها المتطرفون إلى فضاء وسائل التواصل الاجتماعي للدرجة التي صاروا وكأنهم يلعبون على ملعبهم وبين جمهورهم، رغم كل القوانين المتشددة لمكافحة الإرهاب في العالم، والطامة الكبرى أن حكومات تحارب الإرهاب بقوة من جهة، لكنها تسمح له، ولا حول لها ولا قوة، بالتغلغل بصورة واضحة بين مواطنيها من جهة أخرى. إنها المأساة بعينها، فقد تحولت «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب» إلى جنة للإرهابيين.
بقدر ما كان الإنترنت نعمة على العالم بأسره، إلا أنه أيضاً، ويا للأسف، تحول إلى مصباح سحري سمح للمتطرفين بنفث سمومهم والإيقاع بضحاياهم، ولعب دورا بارزا في صناعة التطرف والإرهاب والتحريض على العنف. يقول السير ديفيد أوماند، في كتابه «استخبارات وسائل التواصل الاجتماعي»، إن أحداث العنف التي اندلعت في بريطانيا في أعقاب مقتل أحد المواطنين على يد شرطي، في شهر أغسطس (آب) 2011 لم تكن لتحدث بذات الاتساع والتأثير لولا استخدام ناشطين قنوات التواصل الاجتماعي في تأجيج حس العداء ضد الشرطة والتحريض على الأعمال الإجرامية. وفي الوقت الذي تطالب فيه الحكومات كلا من «غوغل» و«فيسبوك» و«تويتر» بسرعة التحرك لوقف التحريض على الإرهاب وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، فإن هذه الشركات بدورها تؤكد أن سياساتها واضحة بشأن منع بث مواد تتعارض مع شروط الخدمة التي تقدمها، وأنها تشدد على وجود أمر قضائي لمنع نشر شيء ما، لكنها لا تخفي خشيتها من أن يؤدي تعاونها في دول غربية تعرضت لتهديدات إرهابية إلى مطالب لا تنتهي من مختلف دول العالم. بالطبع هذه الشركات لا تريد أن تخسر حصتها من أرباح مهولة تتأثر من خطوات وإجراءات إضافية تقلل من إقبال المستخدمين على محتواها، فمثلا كل إعلان يظهر على مقطع فيديو «يوتيوب» يحصل صاحبه على 7 أو 6 دولارات مقابل كل ألف مشاهدة، كما أنه «فيسبوك» و«غوغل» و«تويتر» تفضل عدم إلقاء المسؤولية عليها في رصد التحريض على الإرهاب، كي لا تخصص قوى عاملة إضافية لإيقاف المحتوى المتطرف.
وفقا للمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي، فقد نشر تنظيم داعش في فبراير (شباط) 2015 نحو 892 مادة دعائية (أشرطة فيديو وصور وتسجيلات صوتية ومقالات مكتوبة)، عبر منصات عدة في الإنترنت، و570 مادة دعائية نشرها التنظيم في شهر فبراير 2017، وهو ما يعني أن التنظيم مستمر في استراتيجيته الإعلامية عبر منصات الإنترنت المختلفة، ولم يوقفه أحد، ومن فرط تغلغل المحتوى المتطرف في العالم الافتراضي بشكل مخيف لم يعد القلق من نشر هذا المحتوى، وإنما من استمراره لفترة طويلة، كما هو في كتيب كيفية تنفيذ «الذئاب المنفردة» عمليات إرهابية، واستخدام السيارات «كأداة حرب». صحيح أن «غوغل» حذفت روابط تؤدي إلى هذه الكتيبات بعد نشر «التايمز» تحقيقها، إلا أن هذا المحتوى تحديدا حقق الغاية، وتم تنفيذه بدقة، بعدما أصبح متاحا لكل المتطرفين، بالإضافة إلى أنه تم تنزيله أصلا لمن رغب على أجهزتهم الشخصية.
إذا كان الحديث سابقا عن احتمالية خروج الإنترنت عن السيطرة في أي لحظة، فإنها الآن أضحت بالفعل خارجة عن السيطرة، في ظل مساحة ضئيلة جدا بين الحفاظ على حرية التعبير والاستغلال البشع للقتل والترويع والتدمير. العالم أمام تحد قاس لوسائل التواصل الاجتماعي ومستخدميها، إما بإيجاد وسيلة فعالة للحد من استغلال المتطرفين لها، وإما بالاستسلام للممارسات المنحرفة، فتتحول إلى آلة تخريب مدمرة تقوض أركان المجتمعات وتهز سلمها الأهلي.