عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مسرح اللامعقول السياسي

قررت التراجع عن قولي السابق «أكثر من نصف قرن عملا في الصحافة السياسة حصنني ضد الدهشة».
فالأحداث لم تعد تتلاحق بسرعة تجعل «أسبوعا وقتا طويلا جدا في عالم السياسة» حسب قول الزعيم العمالي الراحل هارولد ويلسون؛ بل إنها بسرعتها جعلت من اليوم الواحد سنة في عالم السياسة.
أنا من الجيل القديم جيل الكلاسيكيات في «فليت ستريت»، الذي أصبح اسما معنويا لا جغرافيا، بعد تشتت قبيلة الجرنالجية في بقاع لندن الأربع.
في مطلع حياتي الصحافية لقنني المحرر الإداري درسا عندما قدمت استمارة بدل المصروفات «تذاكر أوتوبيس على الاستمارة؟»، ومزقها قائلا: «يجب ألا يشاهد القراء محررينا في باص؛ أريد رؤية إيصالات التاكسي مع استمارة الشهر القادم يا ولدي العزيز».
اليوم يعنف الصحافيون إذا طالبوا بدرجة رجل الأعمال في رحلة بالطائرة عبر الأطلسي.
اليوم ترهقنا الأحداث بسرعة تغيراتها، لدرجة أنني في بعض الأيام أتخلى عن قاعدة ذهبية وضعها أستاذنا الراحل السير ويليام ديديز (فيما بعد اللورد ديديز2007 - 1913 السياسي والوزير في حكومة إليك دغلاس - هيوم المحافظة ورئيس تحرير «التلغراف» الأسطوري الذي ذهب إلى دارفور ليغطي أحداثها وهو في التاسعة والثمانين). كان يقول: «باستثناء الحرب العالمية الثالثة، لا شيء يجب أن يعطلك عن وجبة الغداء المتحضرة يا ولدي العزيز».
وجبة الغداء المتحضرة كانت المتعة الأساسية للصحافيين؛ فلا عشاء للعاملين في مهنة المتاعب بسبب مواعيد الطباعة أيام زمان، ولا يذهبون للمنزل إلا بعد منتصف الليل (شخصيا لم أصادف زملاء صحافيين من الجيل القديم إلا وفشلت حياتهم الزوجية ولا يعيشون في سعادة أسرية). بالفعل هذه الأيام يتكرر تجاهلي لوجبة الغداء المتحضرة، وأجد نفسي «أخطف» وجبة سريعة للحاق بتغير الأخبار.
ليست فقط الأحداث المتتابعة المتسارعة، بل أيضا كوميديا الأحداث السياسية التي تتجاوز الاسكتشات الكوميدية ومسرح العبث أو مسرح اللامعقول الذي اخترعه فلاسفة طلائع المسرح الأوروبي في الستينات.
بل عندما تظن كصحافي أن العبث الساخر، أو ما يعرف بالـfarce في المسرح الإنجليزي، بلغ أوجه وتسيل دموعك في خليط من الضحك والألم معا (الضحك على جوهر الحدث والألم لتمزيقك ما كتبته وإعادته مرة أخرى ضاربا عرض الحائط بتقديراتك وتحليلاتك من خبرة صحافية تعود إلى منتصف ستينات القرن الماضي)؛ تفاجأ بأحداث أخرى تتفوق في لامعقوليتها على ما أضحكك وأبكاك قبل نصف ساعة.
أحداث غير مسبوقة، من اتهام الروس بالتدخل في الانتخابات الأميركية عبر الاختراق الإلكتروني للأنظمة الإلكترونية، وانتخاب دونالد ترمب نفسه غير المتوقع، ثم اتهامه مخابرات بلاده بالتجسس عليه، لم يكن أحد قبل عام واحد يتوقع أن يقرأها في صحيفة، ناهيك عن أنها تقع أمام أعيننا!
في أسبوع واحد درنا على نفسنا حسب القول عود على بدء. حدثت العجائب منذ موضوعنا في الأسبوع الماضي عن الميزانية التي قدمها وزير المالية لمجلس العموم، وأثارت غضب شارع الصحافة البريطانية مثلما يذكر قراؤنا، من فرض الحكومة ضرائب جديدة على العاملين في الوظائف الحرة.
الحكومة البريطانية التي توقعت البلاد أن تكون رئيستها سيدة حديدية جديدة، لم تتحمل ضغوط الصحافة عليها، وهذا الأسبوع استدارت الحكومة على عقبيها «للخلف در» وغيرت موقفها؛ وأجبرت رئيسة الوزراء وزير ماليتها على تغيير الميزانية وإلغاء الضرائب، وتحولت الحكومة إلى محل سخرية المعارضة. ربما الجانب الجدي في الموضوع هو قوة الصحافة المطبوعة، مثلما يذكر القراء من الأسبوع الماضي، فهي التي وقفت بقوة في وجه الحكومة، بينما الـ«بي بي سي» وبقية الشبكات التلفزيونية كانت مع الحكومة؛ أي رغم الضغوط المادية والتقارير عن تلاشي دور الصحافة المطبوعة، فإن حكومة أعرق الديمقراطيات في العالم وأكثرها استقرارا، التي تؤيدها شبكات التلفزيون، لم يصمد قرارها أربعة أيام أمام هجوم الصحافة المطبوعة.
في الأسبوع نفسه، وبعد أن بدأنا نتعود على غير المتوقع من إدارة ترمب الجديدة ودبلوماسيتها غير المسبوقة، بما فيها تغريدة الرئيس الأميركي بأن سابقه باراك أوباما أمر بالتجسس على مكالماته التلفونية، فاجأنا متحدثه الرسمي باتهام مركز الاتصالات للمخابرات البريطانية بالتجسس على مكالماته التليفونية بتكليف من الرئيس السابق أوباما.
في الحالة الراهنة في العلاقات الدولية تجد الصديق الأقرب لإدارة ترمب هو بريطانيا التي تتربص بها بلدان الاتحاد الأوروبي، وبالتالي حليفها الأول هو الولايات المتحدة، مما أعطى الاتهام الأخير ضد المخابرات البريطانية نكهة كوميدية خاصة.
البعد الآخر لهذه الكوميديا أن اتهامات ترمب للمخابرات البريطانية بالتجسس على مكالماته جاءت والزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل في طريقها لمقابلته. المثير للضحك أن مخابرات أوباما تجسست بالفعل على تليفونات المستشارة الألمانية ميركل في برلين وعلى مكالماتها، وقد اشتكت بالفعل للرئيس الأميركي السابق، وأعطى مكتبها المعلومات والتفاصيل للصحافة.
وهو ما ذكره الرئيس ترمب في المؤتمر الصحافي يوم الجمعة، الذي أظهر الخلافات بينهما، لكنه قال إن بينهما عاملا مشتركا واحدا، وهو التجسس على تلفونات كل منهما.
لقاء ترمب والزعيمة الألمانية كان أيضا مسرحية مشوقة. غابت البروتوكولات الرسمية المعروفة، ولم تقع المصافحة المعتادة بين الزعيمين، ولم ينظرا لبعضهما بعضا؛ في مشهد مخالف 180 درجة للقاء ترمب بالزعيمة البريطانية تيريزا ماي.
الأخيرة بدورها لم تتم فرحتها بصدور قانون الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ خطفت الوزيرة الأولى في اسكوتلندا الأضواء منها، لتضعها على شفير أزمة دستورية في مؤتمر صحافي هددت فيه بدفع البرلمان الاسكوتلندي لاستصدار قرار بإجراء استفتاء جديد على استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة، فأغلبية الاسكوتلنديين يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
فصل كوميدي آخر بطلته اسكوتلندا التي تريد الاستقلال عن حكومة لندن المركزية، كي تصبح تابعا يحكم من بروكسل.
ويتفوق الأسبوع السياسي كوميدياً على نفسه بخبر فاجأ الصحافة والسياسة معا.
جورج أوزبورن وزير المالية السابق في حكومتي ديفيد كاميرون السابقتين، رغم كفاءته كسياسي، وصداقتنا الشخصية، فإن خبرته الصحافية صفر، فهو لم يعمل في الصحافة أبدا، أعلن أول من أمس توليه رئاسة تحرير الصحيفة اللندنية الأشهر «الإيفننغ ستاندارد»، التي تطبع 850 ألف نسخة يوميا.
رجل سياسة بريطاني نائب عن حزب المحافظين في مجلس العموم يعمل أيضا مستشارا لمؤسسة مالية أميركية، سيتولى رئاسة تحرير صحيفة يومية يملكها مليونير كان عميلا في الكي جي بي، المخابرات السوفياتية سابقا.
مفاجأة يعجز أمهر كاتب كوميديا عن رسمها.