سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

عدوى موقف ترمب

مما نقرأ في السيرة المبكرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، أنه كان يرغب في أن يكون إعلامياً، وأن أباه هو الذي ضغط عليه في اتجاه دراسة الاقتصاد، ليصرفه عن الإعلام، وأنه أغراه أيامها بمكافأة كبيرة، وأن ترمب قد درس الاقتصاد كارهاً، فيما يبدو، وأنه لو تُرك لرغبته لكان الإعلام ميدان حياته وملعبه، فهو رغبته الأولى... لا المال ولا الأعمال!
ولست أعرف ما إذا كان مدخلاً كهذا، يصلح لفهم موقفه من الإعلام في بلده منذ سكن البيت الأبيض، أم لا؟!... إن موقفه المعروف من الإعلام، سابق على كل حال، على وجوده في مكتبه البيضاوي، وبالتالي، لا يمكن القول بأن نشوة السلطة، إذا صح التعبير، تقف وراء موقفه هذا... لا يمكن... ولذلك، لا بد من البحث عن تفسير آخر!
والمشكلة الآن لم تعد متوقفة عند حدود كلامه السلبي عن الإعلام، ولا المشكلة في أنه يردد إزاء الإعلام الأميركي كثيراً، إنه إعلام كاذب، دون أن يلتفت إلى أن هذا الإعلام الكاذب، هو بالتحديد الذي نقل للأميركان، ولغير الأميركان، كل شيء عن المرشح ترمب قبل فوزه!... إن الأخذ بتصريحاته عن الإعلام، والتسليم بها، يعني بشكل من الأشكال، أنه إذا كان هناك ناخب أميركي منح صوته لترمب، بناء على شيء جيد قرأه عنه، أو شاهده، أو سمعه، في هذا الإعلام، إنما هو ناخب ناقص العقل، لأن صدّق إعلاماً كاذباً، وأخذ عنه، وسلّم بما فيه!
ومع ذلك فالمشكلة مرة أخرى، لم تعد تتوقف عند حدود الكلام، لأن الرجل ترجم كلامه إلى فعل، عندما منع البيت الأبيض وسائل إعلام كبيرة من حضور مؤتمر صحافي داخله، قبل أيام، ثم عندما كان المنع من نصيب وسائل إعلام كبرى، من نوع «نيويورك تايمز»، ومن نوع «سي إن إن»، ومن نوع «لوس أنجليس تايمز»!
وقد كنا نتصور أن هذا الموقف سوف لا يلبث حتى يتغير، في اللحظة التي ينتقل فيها صاحبه من مرشح فائز، إلى رئيس، خصوصاً أن بوادر على مثل هذا الانتقال كانت قد بدأت تلوح في الأفق، كأن يزور هو «نيويورك تايمز»، مثلاً، بعد فوزه، ويداعب في مقرها عدداً من محرريها، وقد حدث هذا فعلاً، لولا أنه فيما يظهر الآن، ليس من الأشياء التي يمكن البناء فوقها، والدليل هو هذا موقف الإدارة غير المسبوق تجاه وسائل الإعلام!
لا أريد هنا أن أردد كلاماً من نوعية أن المنع من حضور المؤتمر، ليس عقاباً لهذه الصحف أو القنوات التي وقع عليها العقاب، بقدر ما هو عقاب لجمهورها من القراء ومن المشاهدين... لا أريد أن أقول بهذا، لأنه كذلك حقاً، ولأن الصحف والقنوات الواردة أسماؤها في قوائم المنع تعرف جيداً كيف تحصل لجمهورها على ما يستحقه من خدمة إعلامية جيدة، وتعرف كيف تجيء بالرئيس إلى ميدانها، وتأخذ منه حقها، الذي هو في الأصل حق جمهورها، كاملاً!
وهي لا تعرف هذا، وفقط، ولكنها تعرف ما هو أكثر، وكيف أن حق جمهورها محفوظ ومصون، بنصوص مستقرة في الدستور، لأن الإدارات تجيء وتذهب، وسيبقى الدستور بمواده مصوناً لصالح كل أميركي، كما نطقت بذلك تجارب قرنين ونصف القرن تقريباً، من تاريخ الولايات المتحدة، رئيساً وراء رئيس!
المشكلة العويصة أن الدستور الأميركي دستور إنساني بطبعه، بمعنى أن حقوقاً فيه انتقلت منه لدساتير شعوب أخرى حول العالم، وكأنها عدوى، رغم أنها حقوق موضوعة في الأساس لمواطنيها الأميركان، ولكن لأن أميركا كانت منذ لحظة تأسيسها، بلداً يتوق إليه، ثم إلى الحقوق الممنوحة في داخله، كل إنسان خارجه، فإنه كان دوماً محط الأنظار، وموضع الآمال الكبيرة، وكان كل ما يجري على أرضه ينتقل بدرجات إلى الخارج، سواء كان الجاري شيئاً جيداً، أو سيئاً... فالتأثير واحد، والعدوى واحدة!
ولم يكن من قبيل المبالغة في شيء، أن يُقال في أحيان كثيرة، وبالذات مع كل انتخابات أميركية جديدة، أن العالم كله يجب أن يشارك في اختيار الرئيس الأميركي الجديد... أي رئيس... لأن تأثير قراراته لا يتوقف عند حدود بلاده، ولأن هذا التأثير، أياً كانت درجته، وأياً كان اتساع دوائره، يجعل من ترمب، ومن كل رئيس سابق عليه، ومن كل رئيس يأتي من بعده، رئيساً للعالم بمعنى من المعاني!
من أجل هذا كله، فإني لا أخشى في شيء، من استمرار ترمب في موقفه تجاه الإعلام في بلده، فالدستور هناك قادر على ترويض أي رئيس، وكفيل بحفظ حقوق مواطني هذا الرئيس غير منقوصة... الخوف كله من أن يكون موقف ترمب في حدوده، مبرراً لحكومات بامتداد العالم لتتخذ الموقف ذاته، وربما أشد، من الإعلام في بلادها، وهي مُطمئنة إلى أن موقفها سيمر، لأن مؤاخذة من أي نوع، لن تأتيها من واشنطن، ولا من غير واشنطن طبعاً... وكيف تأتيها المؤاخذة، إذا كانت بلاد تمثال الحرية تسبقها في الممارسة ذاتها؟!
تداعيات موقفه من الإعلام على مستوى الخارج، هي التي تدعو إلى الخوف، لا تداعياته على مستوى الداخل، فحصانة حق المواطن الأميركي في إعلام حر، مقررة، ولا شك فيها، ولا جدال حولها، وإنما الخوف كله يظل من حكومات الدول النامية تحديداً، التي لم يكن يمنعها عن إعلامها، إلا الحياء من لوم الحكومة الأميركية، مرة، والخوف من عقوباتها، مرات، فإذا جاء موقف ترمب، ليزيح عنها الحياء، ومعه الخوف، فماذا سيتبقى لشعوب ليس عندها من شيء تتنفس منه أمام ضغط حكوماتها، إلا الإعلام الذي يتعاطى بالكاد بعض الحرية... بعض الحرية لا الحرية كلها... ماذا سيتبقى لها؟!