د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

«يوسبريدس» تنتصر على «داعش»

بنغازي «يوسبريدس»، أو حدائق التفاح الذهبي، كما أطلق عليها الإغريق في الفترة من 525 ق.م إلى 515 ق.م، حيث كان التفاح ثمناً للحرية كما جاء في الإلياذة أو كما يحلو للبعض تسميتها شعبياً «رباية الدايح»، أي مأوى لمن لا مأوى له، ومصدر رزق لكثيرين، ممن ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فبنغازي الحرية الثائرة على مر العصور، والتي منها كانت صرخة الحرية على ظلم طال عقوداً، فمن يسعى فيها بزرع الخوف وصناعة الموت والرعب والفزع يعد مفسداً في الأرض.
رغم إشعال فتيل الاغتيالات، والقتل والاختطاف، من قبل ميليشيات الإسلام السياسي «الدروع» قبل عامين، وتحريك الخلايا النائمة للجماعات الإرهابية بعد أن ضاق بها الحال اليوم بعد حصارها في آخر جيوبها غرب بنغازي، إلا أنها عجزت عن تركيع أهالي بنغازي في القبول بـ«داعش» أو أخواتها أو أن تكون حاضنة لميليشيات الإسلام السياسي تحت أي مسمى؛ فبنغازي التي عايشت سنوات من الإرهاب والقتل والخطف بدأت تنجلي عنها بعد انتصارات الجيش الليبي وتحرير أغلب مناطق بنغازي وأحيائها وأصبحت «داعش» محاصرة في بضعة كيلومترات تستجدي ممراً آمناً عبر عرابي الإسلام السياسي الذين سقطت عنهم ورقة التوت، وأظهروا مناصرة لـ«داعش» وبقاياها المختبئين خلف النساء والأطفال.
الأمن والأمان هو منة الله على عباده «وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»، فجعل أمن الناس مسبقاً على غيره من الأمور، فلا تقوم الحياة بغير أمن، بعد أن أبدلهم الله بعد خوفهم أمناً، بعد أن كان الشيطان قد أوهمهم بالخوف «وَلَيُبَدِلَنَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً».
لغة الاختطاف والتفجير والاغتيال، لغة عقيمة لا تحقق شيئاً، سوى الفوضى والفزع والرعب بين الناس، وهذا ما حرمه الله في جميع كتبه، وليست سبيلاً لتحقيق أي مطلب وليست أداة «للقصاص»، فالقصاص حق أصيل للحاكم من خلال القضاء وواجب التنفيذ لولي الأمر لا سواه، وعدا ذلك تصبح فوضى وخروجاً عن حكم الله وشرعه، قبل أن يكون خروجاً عن حكم ولي الأمر، فالقتل بدم بارد دون محاكمة، يوجب المحاربة، كما أن إفزاع الآمنين وترهيبهم بالتفجيرات والرصاص، هو أيضاً خروج عن شرع الله، بترويع من منّ الله عليهم بنعمة الأمان، يعد محاربة لله.
الشارع الليبي عامة والبنغازي خاصة، أظهر تماسكاً ولحمة وطنية، في أغلب حوادث التفجيرات والاستهداف الصاروخي، وأظهر شجاعة في التظاهر وتكراره في الساحات والميادين نفسها التي تعرضت للقصف والتفجيرات الإرهابية من قبل ميليشيات «داعش» و«مجلس شورى» إرهاب بنغازي المتحالف مع «داعش»، والمتحصن والمختبئ معها في الخندق ذاته، شجاعة افتقدتها بعض النخب السياسية التي أمطرت الشارع بسيل من الإسهالات التحليلية عوراء الرؤية، تلاسنت من خلالها مع خصومها السياسيين، دون أن تقدر وتستشعر حرمة الموت وفاجعة أهل الضحايا، وترتقي إلى حجم الفاجعة وأحزان الوطن، لا أن تتنازع وخصومها استثمار أي حادثة تفجير أو استهداف صاروخي إرهابي في بنغازي، الذي من العادة استهدف المدنيين ويترك وراءه الكثير من الضحايا لا بواكي لهم لدى ما يسمى حكومة الوفاق، التي لا وفاق عليها من قبل الليبيين، بل إن هناك من جاهر بالتأييد ورفض الإدانة لهذه الجماعات، بل أصر على وصفهم بـ«الثوار» المصطلح الفضفاض الذي يختبئ خلفه حتى من بايع سفيه بغداد أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش الإرهابي.
بنغازي تستحق الأمان لأنها قدمت الكثير، وكانت حاضنة لجميع القبائل الليبية، فكانت بيتاً لمن لا بيت له، فتعايش فيها جميع سكان ليبيا ضمن فسيفساء وطنية نادرة في مجتمع قبلي، بجميع مكوناتهم وقبائلها، فتعايش فيها القادمون من البحر في هجرات متتالية، ووجدت في شواطئ يوسبريدس ملاذاً آمناً لهم عبر العصور، فاستوطنها من ضاقت به السبل، لأنها آمنة عبر التاريخ، وستبقى كذلك رغم أنف المفسدين بعد أن شارف الجيش الليبي على استكمال تحريرها من «داعش» وأخواتها.