مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

جيم ماتيس وإدارة ترمب

هل هناك من بصيص أمل في إدارة رئيس أميركا الخامس والأربعين دونالد ترمب فيما يخص منطقة الشرق الأوسط؟ أيام إدارة الرئيس جورج دبليو بوش كتبت مقالا في هذه الصحيفة (8 مارس/آذار 2004) بعنوان «إدارة الرجل الثاني» في إشارة إلى أن الرجل الأول حينها جورج دبليو بوش لم يكن هو من يمسك بعجلة القيادة، بل كان رجله الثاني ديك تشيني هو المحرك الرئيسي للأحداث. يومها كتبت ما نصه «إذا كانت هناك نصيحة واحدة أسديها للزعماء العرب حول طريقة التعامل مع إدارة الرئيس بوش، فهي التعامل معها على أنها (إدارة الرجل الثاني). أقصد بذلك أن الرجل الأول في كل أركان الإدارة هو مجرد واجهة، أما جوهر السياسات والقرارات الفعلية فهي غالبا ما تكون في يد الرجل الثاني»، هذا كان حال إدارة جورج دبليو بوش، أما في حالة إدارة الرئيس دونالد ترمب فهي ليست إدارة الرجل الثاني، بل إدارة النسق الثاني، وهنا أعني من هم تحت الرئيس من التنفيذيين، خصوصا في وزارتي الخارجية والدفاع.
وسأركز في هذا المقال على وزير الدفاع الأميركي الجديد جيمس (جيم) ماتيس، على أن أخصص المقال المقبل للتعرف إلى تفكير وزير الخارجية ريكس تليرسون والمفاهيم الحاكمة لشخصيته. يعتبر وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس من أهم وزراء الدفاع الأميركيين الذين يفهمون منطقة الشرق الأوسط، ومن أكثرهم احتكاكا ومعرفة بقادة المنطقة العربية، وذلك من خلال الفترة التي عمل فيها قائدا للمنطقة المركزية التي تُعنى بشؤون الشرق الأوسط الكبير من أفغانستان حتى المغرب. الشرق الأوسط من دون تركيا وإسرائيل اللتين تقعان ضمن تخصص المنطقة الأوروبية. جيم ماتيس كان القائد رقم 11 في قيادة المنطقة المركزية، وصمت سلسلة من الجنرالات المتميزين، مثل جون باتريوس، وجون آبي زيد، وتومي فرانكس، وأنتوني زيني، ومن قبلهم الجنرال نورمان شوارتسكوف الذي قاد حرب تحرير الخليج. كل هؤلاء القادة العسكريين كان لهم احتكاك مباشر بقيادات المنطقة العربية، ولكن أكثرهم فهما لأهلها كان آبي زيد وباتريوس ووجيم ماتس، حيث ثلاثتهم كانوا يتميزون بجانب أكاديمي وليس مجرد تدريب عسكري. خدم جيم ماتيس قائدا لتلك المنطقة في الفترة من 2010 إلى 2013، واحتك كثيرا بالقيادات فيها، وخصوصا في أبوظبي والأردن والسعودية ومصر، وكان يسمع باهتمام شديد لبعض هؤلاء القادة فيما يخص رؤيتهم لنوعية التهديدات الإقليمية. من هذه الحوارات وغيرها، طور الجنرال جيم ماتيس رؤيته حول إيران بصفتها مصدرا رئيسيا لتهديدات أمن المنطقة.
في كلمته أمام معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن في أبريل (نيسان) 2016، رسم جيم ماتيس ملامح تفكيره الاستراتيجي فيما يخص منطقة الشرق الأوسط من حيث نوعية التهديدات ونوع الأعداء، وكذلك طبيعة الحلفاء.
ماتيس يرى إيران أمَّ المشكلات في المنطقة من حيث الإرهاب والتهديد التقليدي، وأيضا التهديد النووي والصواريخ الباليستية، ومع ذلك هو ليس مع تفكيك اتفاق خمسة زائد واحد مع إيران رغم أن الرئيس دونالد ترمب قد يرى ذلك. بالنسبة لجيم ماتيس تفكيك الاتفاق يعني عزلة أميركا عن القوى الكبرى الأخرى الموقعة على هذا الاتفاق، وخصوصا الدول الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا). ومع ذلك هو مع ردع إيران وحصارها.
تمثل إيران بالنسبة للتفكير الاستراتيجي لوزير الدفاع الأميركي الجديد عقدة عدم الاستقرار في المنطقة من سوريا حتى اليمن ولبنان مرورا بدول الخليج، وربما كانت أسباب استقالة جنرال المارينز المعروف بلقب «الكلب المسعور» أنه كان دائمًا يسعى لمواجهة عسكرية مع إيران. ولم يقبل بطريقة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في تعامله مع نظام الملالي في طهران؛ ولذلك ترك ماتيس منصبه عام 2013. استقال من منصبه قائدا للقيادة المشتركة.
لا يتميز جيم ماتيس فقط بأنه الكلب المسعور الذي لم يخسر معركة في حياته منذ أن كان قائدا صغيرا في قوات المارينز حتى الآن، بل يتميز أيضا بعقل صاف بصفته مفكرا استراتيجيا؛ لذا بعد أن ترك عمله في البنتاغون أصبح أستاذا زائرا في جامعة ستانفورد وعضوا في معهد هوفر بالجامعة ذاتها، وهو معهد يميني أسسه وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز. إذن، نحن لسنا أمام رجل عسكري فقط، بل أمام مفكر استراتيجي من الطراز الرفيع.
وهب جيم ماتيس حياته للقوات المسلحة الأميركية؛ فحتى الآن وهو فوق سن الستين لم يتزوج، ويقضي أيامه بين الكتب، وفي مكتبته الخاصة ما يزيد على ستة آلاف كتاب من الاستراتيجية إلى التاريخ إلى الآداب العالمية، فالرجل ليس مجرد «قاتل محترم» كما يسمي المارينز أنفسهم، بل هو عقل كبير أيضا. ومع ذلك، هو قائد من نوع غريب يعظ أعضاء فرقته من جنود المارينز بأن يكونوا أكثر أدبا، ومع ذلك لا يترددون في قتل حتى من يظنون أنهم أصدقاؤهم. يقول ماتيس لأفراد فرقته «كن مؤدبا وكن حازما ومحترفا، ثم بعد هذا اقتل كل من يقابلك».
وزير الدفاع الأميركي سيفرض على دونالد ترمب أن يفكر بشكل استراتيجي في تحديات الشرق الأوسط. فهو، كما قلت، يعرف قيادات المنطقة جيدا، وفي حديثه في معهد الدراسات الدولية في واشنطن تحدث عن لقاءاته بالملك عبد الله الثاني وبالشيخ محمد بن زايد وبالقيادات السعودية والقيادات المصرية، وتعلم الكثير عن رؤية العرب لطبيعة التهديدات وما تمثله إيران من كارثة على الإقليم. ما زال ماتيس يرى أنه لا حل للسلام الإقليمي إلا بتغيير نظام الملالي في طهران، والسؤال الآن هو هل سيؤثر ماتيس على سياسة ترمب تجاه إيران، أم أنه سيتبع سياسة الرئيس؟
بالنظر عما نعرفه عن دونالد ترمب حتى الآن، هو أنه ربما يترك العمل التنفيذي في الخارجية والدفاع لرجال محترفين، مثل ماتيس وتليرسون. هنا، نحن لا نتحدث عن إدارة الرجل الأول في حالة الرئيس ترمب، ولا حتى إدارة الرجل الثاني في حالة نائب الرئيس مايك بنس، كما كنا نتحدث عن ديك تشيني في إدارة بوش الابن، بل نحن نتحدث عن إدارة النسق الثاني أو الصف الثاني من الوزراء والتنفيذيين المحترفين، ومن هنا ستكون سياسة أميركا تجاه الشرق الأوسط هي سياسة النسق الثاني ممهورة بتوقيع دونالد ترمب. ترمب لن يكون تنفيذيا، ومن هنا سيكون النسق الثاني هو من توكل إليه سياسة أميركا في الداخل والخارج. ومن هنا أيضا سيكون لرجال مثل جون ماتيس القرار الرئيس في قضايا الحرب والسلام؛ ولهذا على الإيرانيين أن يربطوا الأحزمة قبل إقلاع مليء بالمطبات الهوائية في أحسن الأحوال.