رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الاصطياد في المياه الزرقاء

تعتقد الأطراف الهامشية في النزاع الشرق أوسطي الدائر، أنه آن الأوان لكي تجهر برغباتها، وتحصُل إن أمكن على بعض الغنائم، أو على الأقلّ على بعض المعاذير والحمايات. ولا شكّ أنّ الأطراف الرئيسية عندها صعوباتٌ أيضًا سواء في الاتفاق فيما بينها، أو ماذا تُعطي أنصارها أو حلفاءها أو تسمح به لهم. وكمثال على الصعوبات التي تُواجِهُ القوى الكبرى الداخلة في الصراع مسألة الملاذات الآمنة. فقد دعا إليها ترمب وسارعت تركيا والسعودية لتأييدها، في حين رهنتها موسكو بموافقة النظام السوري! وبالطبع ليس هذا شرطًا جديًا، بل ما تقصده موسكو إعادة التفاوض مع الإدارة الأميركية الجديدة على شروط ومسائل كانت قد اتفقت أو اختلفت عليها مع إدارة أوباما. وإلا فكيف سيوافق النظام السوري على ملاذات آمنة بداخل سوريا، وهو الذي أقدم مع إيران على تهجير أكثر من عشرة ملايين، وما يزال التهجير مستمرًا. أنصار الملاذات الآمنة لا يريدون تطويل أمد النزاع كما تتهمهم موسكو وإيران. بل يريدون الاطمئنان إلى وقف الهجرة إلى الخارج، والاطمئنان إلى إمكان عودة بعض النازحين إلى مناطق الأمن خلال التفاوُض على حلّ النزاع، وهي مفاوضاتٌ قد تطول، ويطول معها القتل والتهجير كما حصل في وادي بردى هذا الأسبوع. والخلافات بين الطرفين الرئيسيين أو الأطراف الرئيسية لا تقتصر على موضوع الملاذات الآمنة؛ لكنه الخلاف الذي برز الآن، وستبرز في الأسابيع المقبلة خلافاتٌ أُخرى ليس حول سوريا فقط، بل وحول العراق أيضًا.
إنّ الجديد في تطورات النزاع في كلٍ من سوريا والعراق؛ أنّ المياه لم تعد متعكِّرة، يمكن تحت سطحها الاختفاء والتعمية. ويرجع ذلك إلى اعتقاد الإيرانيين وأنصارهم أنهم انتصروا وينبغي أن يقطفوا ثمار النصر. ويبدو ذلك في العراق وسوريا ولبنان. فقبل ثلاثة أيام وجَّه العبادي رئيس الحكومة العراقية إلى أُثيل النجيفي تهمة الخيانة العظمى، وأمر الجيش العراقي بشرق الموصل بإخراج المتطوعين من أهل الموصل من شرق المدينة الذي استولى عليه الجيش وقوات الشرطة الاتحادية. وكان ذلك بناءً على أنّ قوات الحشد الشعبي الشيعية لن تدخل شرق الموصل أيضًا. لكنْ عندما كانت قوات النجيفي تخرج بناءً على أوامر الجيش دخل الحشد الشعبي إلى شرق الموصل واحتلّ الجامع الكبير بالمدينة، ونشر فيه الشعارات الطائفية. لماذا حصل ذلك؟ لاعتقاد الحشود المتأيرنة أنها انتصرت، وأنه يمكنها الاستمرار في التهجير والتشييع والاستيلاء. وسيحصل مثل ذلك في تلعفر التركمانية الواقعة في المثلث الإيراني - التركي - السوري.
إنّ قصة المياه الزرقاء الصافية كما بدأت تسود بالعراق، وتدفع إلى تهجير السنة، والاصطدام بالبيشمركة الكردية، وبالأتراك في بعشيقة؛ بدأت تسود أيضًا وبوتيرة أسرع في سوريا. ففي الوقت الذي يظهر تحالفان بين المسلحين في الشمال السوري: تحالف جبهة تحرير الشام القاعدي، وتحالف أحرار الشام، واللذين من المنتظر أن يصطدما اصطدامًا قاتلاً للطرفين، وللجيش الحر بالذات، فإنّ «القاعدة» و«داعش» على حدٍ سواء يميلان إلى الانسحاب أمام قوات النظام والإيرانيين (من بلدة الباب مثلاً)، والاشتباك مع قوات «درع الفرات»، وقوات الجيش الحر والأتراك في الشمال السوري. وربمّا مكّن «داعش» القوات الكردية من التقدم باتجاه الرقة بالانسحاب أمامها أيضًا. ولا يفهم كثيرون هذه المسألة، ويعتبرونها دليلاً على التآمر من جانب «داعش» مع بشار الأسد ضد المقاتلين المعتدلين. والحقيقة أنّ التنظيمين «القاعدة» و«داعش» كلاهما انشقاق. والانشقاق يكره الأصل الذي انشقّ عنه، لأنه يريد أن يكونَ بديلاً له، أكثر مما يكره عدوه التقليدي الشيعي أو العلوي أو الأميركي أو الروسي. فإذا كان إلحاق الهزيمة بالإيرانيين أو بالأسد أو بعراقيي إيران غير ممكنٍ الآن، فلا أقلّ من إلحاق أكبر الخسائر الممكنة بالأتراك بعملياتٍ عندهم، وبقوات الجيش الحر على الأرض في شمال سوريا. لكنّ معنى ذلك الإضعاف الشديد في إدلب ليحصل ما حصل في حلب، وتهديد الحدود التركية من جديد، وهذه المرة بالتعاون بين «داعش» و«جفش»!
و«بشائر» أو أمارات صيرورة المياه زرقاء بالنسبة للأطراف الهامشية، المتغيرات الأردنية والمصرية تجاه بشار الأسد، والتي قد تصبح مواقف علنية. وسيبدو الموقف المصري في المفاوضات بجنيف إن حصلت، لأنّ المعارضين السوريين الذين احتضنتهم مصر أتوا في الأصل من موسكو، وسيظهرون موحَّدين في مواجهة الهيئة العليا للمفاوضات. أمّا موقف الأردن فسيكون أكثر وضوحًا، لأن الجبهة الجنوبية (درعا) تتأثر به كثيرًا. وكان النظام و«حزب الله» قد حققا تقدمًا عليها قبل شهور بالاستيلاء على بلدة الشيخ مسكين وقرى وبلدات أُخرى. وهنا أيضًا تنفع الملاذاتُ الآمنة، وهي مفيدة للأردن وللسوريين، لأنّ الأردن ما عاد يحتمل النزوح السوري، ولأنّ النظام وإيران يريدان دفع السوريين السنة إلى الخارج لإبعادهم عن دمشق!
ولنصل إلى لبنان، فقد أصرَّ رئيس الجمهورية قبل أسبوع على النسبية الكاملة في قانون الانتخاب الذي يناقشه مجلس النواب، رجاء الاستئثار بالصوت المسيحي، ودعمه في ذلك «حزب الله» الذي يريد الانفراد أيضًا بالصوت الشيعي. وإذا كان ذلك فيمكن لهما الحصول على الأكثرية في الانتخابات القادمة واشتراع ما يشاءان في مجلس النواب. في السنوات الماضية، وعندما كان حزب الله والتيار الوطني الحر يخشيان شيئًا من مجلس النواب كانا يقاطعانه حتى لا يكتمل النصاب للانعقاد، لأنهما ما كانا يملكان الأكثرية فيه. فإذا امتلكا الأكثرية، فماذا لو اشترعا قانونًا يجعل من «حزب الله» بمثابة الحشد الشعبي أو الحرس الوطني بالعراق؟!
إنّ المسؤولية الأولى في العراق وسوريا في النكسات التي تنزل الآن والوقوع بين فكي كماشة الدواعش من جهة، وإيران وأنصارها من جهة أُخرى، تقع على عاتق الثائرين العراقيين والسوريين أنفسهم، سواء أكانوا سياسيين أو قادة تنظيمات مسلَّحة؛ ذلك أنهم ما استطاعوا توحيد كلمتهم وصفّهم، بحيث يصبحون جهات محترمة من العرب المجاورين ومن تركيا ومن أميركا وروسيا. أما المسؤولية الثانية فتقع على الولايات المتحدة وإدارة أوباما التي أوهمتهم بالانتصار لهم ثم باعتهم لروسيا وإيران. والمسؤولية بالدرجة الثالثة على تركيا التي انتظرت ثلاث سنوات، ولم تتدخل لحماية حدودها. والمسؤولية بالدرجة الرابعة على الدول العربية، وبخاصة تلك التي دعمت المعارضة السورية السياسية والمسلَّحة. إنها دروسٌ مُرّة وثمنها مئات آلاف القتلى وملايين المهجرين وضياع عدة أجيالٍ ودول. ويا للعرب!