مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

بين «الفتنة» وهوامشها

قليلون هم من يمتلكون فضيلة الاعتذار، وخصوصًا في وسط الطبقة السياسية، الذين يتصرفون كأنهم من المعصومين، وقدرة كنعان مكية على الاعتذار عما حصل هي استثناء في الحالة العراقية، كونه مثقفًا مارس السياسة كفكرة صادقة بأهداف نبيلة بالنسبة له، لذلك اكتوى سريعًا بنار الخيانات والفتن، فغادرها مبكرًا بعدما اكتشف أن الدور الذي لعبه قبل حرب 2003 لإضفاء الشرعية الدولية على السياسيين الذين حكموا العراق بعد صدام أنهم «لا يستحقون وصفهم بمعارضين لنظام البعث، لا يستحقون أن يحكموا أحدًا وخصوصًا المتشيعين منهم»، وعندما يشير مكية إلى المتشيعين منهم، فهو يوجه سهامه إلى سياسيين شيعة ممن خدعوه، وخدعوا العراقيين، وخدعوا من أعادهم إلى العراق، بتخليهم عن جميع شعارات الديمقراطية والمدنية والعلمانية التي حملوها أثناء وجودهم في المنفى، وسرعان ما حولتهم الانتهازية السياسية إلى عقائديين مذهبيين ساروا إلى حيث تريد العامة، التي فرضت شروطها عليهم، فارتدوا الأسود وبالغوا في ممارسة الطقوس المذهبية، وتقدموا زوار الأربعينية المعروفين بـ«المشاية حفاة» لعل السير مشيًا إلى كربلاء يمنحهم شريعة توصلهم إلى السلطة في بغداد.
يعدد مكية في روايته «الفتنة» إخفاقات التجربة الشيعية بالحكم، ويردها في بعض جوانبها إلى تكوين الفرد الشيعي بقوله: «الحس الرفيع هو في طبيعتنا نحن الشيعة، ولكننا لا نملك المرونة التي تأتي من تجارب الحكم الذي لم نمارسه. لهذا نميل إلى إنتاج فنانين وشعراء كبار، لكننا نادرًا ما ننتج رجال دولة». فبين سطور روايته يكشف مكية عن غياب العراق لدى هذه الطبقة كفكرة، وبدلاً منه جاءت الطائفة التي غيّبت بدورها الجماعة، فصار العنف ضرورة من أجل شرعنة سلطة الفرد ووحدة الجماعة، وممرًا إلزاميًا لانتصار الطائفة، وهو انتصار لم يتحقق من دون جملة خيانات؛ خيانة خارجية وأخرى داخلية كان أكثرها فجاجة ما وصفه مكية بالخيانة التي حدثت للعلامة السيد عبد المجيد الخوئي.
بين سقوط بغداد واغتيال الخوئي أقل من 24 ساعة، كانت بمثابة الإعلان عن بداية النهاية لمشروع التغيير الذي بدأ في التاسع من إبريل (نيسان) وانتهى في العاشر منه من العام نفسه، وكأن الاغتيال كان مدروسًا. يكشف استعجال المرتكب ومن خلفه إلى تحييد النموذج الوحيد الذي كان باستطاعته إحراج جماعة الإسلام السياسي الشيعي من داخلها، ويكشف ارتباطاتها وولاءاتها الخارجية، كان السيد الخوئي الصلة الضرورية بين النجف وبغداد، بين الشيعة وجوارهم، بين العراق الجديد والعالم، لذلك قتل، لم يكن الاغتيال فقط لحاجة قاتله إلى إعلان وجوده، بل هو إحدى المحطات الضرورية لمهندسي الانقلاب الإقليمي على مرحلة ما بعد «طالبان» وصدام، أولئك الذين استخدموا العنف لفرض شروطهم على المحتل، لذلك لا ينفصل اغتيال الخوئي عن اغتيال رفيق الحريري وبنظير بوتو، حيث تشترك الأسماء الثلاثة بصفات التمايز عن محيطهم وتمسكهم بالاعتدال، ورغبتهم الدائمة بالحوار مع الآخر، ورفضهم للعنف، جمعتهم نظرة العالم لهم، كل من موقعه وإمكانياته بأنهم يملكون الشروط المطلوبة للتغيير، صفات أثارت غرائز القتل والخيانة والفتن لدى قطاع الطرق، تفرقهم العقيدة ولكن تجمعهم الجريمة، أرادوا من قتلهم قطع طريق الحرير الجديد.
تعود معرفتي بكنعان مكية إلى نهاية عام 2000 عندما نصحني والدي بقراءة كتابه «القسوة والصمت»، لم يلتقِ الرجلان هاني فحص وكنعان مكية إلا مرة واحدة، كان ذلك بعد 5 سنوات على سقوط نظام صدام حسين، حيث جمعتهما الخيبة مما كان والخوف مما سوف يكون، يومها بدا والدي أقل منه تأثرًا بالصدمة وبخيبة الأمل، فلعل علاقته التاريخية وتجربته العميقة وعن قرب بأغلب قادة المعارضة الشيعية العراقية، قد ساعدته في التخفيف من صدمة الفشل المبكر للشيعية السياسية العراقية التي خرجت من رحم ما عرف بعد أحداث النجف سنة 2004 بـ«البيت السياسي الشيعي» الذي أطاح ممثلوه في السلطة بفكرة الدولة وبشروط إعادة تشكيلها، فقد برزت فرصة تاريخية في تلك اللحظة الوطنية من أجل إنجاز تسوية تاريخية، يخرج فيها الأكراد من عقدة الخوف على المصير، تسوية تطمئن السنة وبأنهم ليسوا المسؤولين وحدهم عن جرائم «البعث»، وليس كل «البعث» مسؤولاً عن جرائم صدام، صدام الذي لم يمنح خصومه نشوة الانتصار عندما تحول إعدامه من عقوبة إلى انتقام، لكن تلك الفرصة أطيح بها.
بين «الفتنة» وهوامشها، يطرح مكية تساؤله المفتوح حول التجربة وفشلها، ويعتبر الفشل ذاتيًا آتيًا من الداخل، صنعه قادة عراقيون حولهم ضعفهم إلى طائفيين استبدلوا بفكرة العراق، ذلك الوهم (دولة الشيعة)، وعليه تبقى كتابات كنعان مكية ومواقفه مثيرة للجدل، حيث تصعب إدانتها وإنصافه... كنعان مكية، ليس ذنب العراق ذنبك وحدك، لذلك لا تعتذر عما فعلوا.