فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

عن الحمراء... النورس بالمطار والذئب بالمدينة

ما إن تدلف إلى شارع الحمراء غرب بيروت إلا ويخالطك الشعور بأن الأفق الذي لا يتجاوز طوله ألفًا وثلاثمائة متر، هو محتوى لبنان، حيث المكتبات، وضجيج المقاهي، وأكشاك الصحف والمجلات. وإذا نضجت الشمس ضحى يبتلع الشارع العابرين على الأرصفة من اللائذين أو القافلين. وحين كان خندقًا زراعيًا قبل خمسة قرون لم يدرك بنو الحمراء أن شارعهم سيتحوّل إلى ميدان تلاقٍ وتنوع. صمغ شجر المقساس الذي زرعوه لم يصد العصافير، بل على أغصانها غرّدت. ومع المغيب تلمع أضواء «النيون» وبرقها يضيء ظلمةً بليلٍ لا ينعس، والأرصفة تلك اعتادت على إخفاء أسرار تمتمات المحبين وهم يتجهون نحو الأماسي السينمائية والشعرية، وربما لمقهى ينبعث منه صوت فيروز وهي تغني: «خبي أسرار أسرار»، والشجر المشبع بندى الليل سمع أصوات أدباء كثر، بلند الحيدري، محمد الماغوط، بدر السياب، أدونيس، عبد الله القصيمي، شارع حفي حي بنهاره وليله.
لم يذبل تاريخه، شارع الحمراء، وإن فقد كثيرًا من وهجه منذ منتصف السبعينات حيث الحرب الأهلية، بقي متوهجًا بمرحه حتى مع تطور سياحي لافت، من الواجهة البحرية، وحي الزيتونة، ومنطقة عين المريسة، وأسواق ومطاعم الأشرفية، كل ذلك لم يقض على جاذبية الحمراء، ففي كل زاويةٍ تاريخ، ولكل مقهى حكايا ورواد وأساطير جعلوا للمكان الذي يرتادونه تاريخًا يروى. كتب عفيف دياب عن مقاهي الحمراء القديمة وربما المنقرضة، مذكرًا بمقهى «هورس شو» الذي انطلق عام 1959؛ مقهى الرصيف الأول بالشارع والذي تحول إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم، ثم مقهى «إكسبريس» و«مانهاتن» و«نيغرسكو» و«إلدورادو» و«ستراند»، مقاهٍ باتت تاريخًا وماضيًا، وأخرى تفجّرت مع مشاريع التطوير الحديثة.
ذلك الشارع المختصر لروح لبنان لا تزال الجماعات الإرهابية ترى فيه هدفًا مفضلاً للاقتصاص من لبنان الجذل بالفرح، مر على أرصفته عناصر من تنظيم القاعدة قبض عليهم لاحقًا، وتقافز على شققه بعض المطلوبين حتى تم القصاص منهم، وآخر تلك المحاولات ذلك الانتحاري بحزامه الناسف قاصدًا مقهى «كوستا» بزواره المعتادين من النهار إلى جوف الليل، قبضة رجال الأمن ونجاح شعبة المعلومات سهّلا من المهمة، فقبض عليه قبل أن يضغط الزر، وإلا فإن مجزرةً مهولة كادت تحدث في الحمراء، اختار وقتًا هو الذروة، ليلة السبت ترتسم شوارع الحمراء بوجهٍ ضاحك، ووديان من المشاة والسيارات تمخر عباب الشارع جيئةً وذهابًا، وتغص الطاولات بالخارجين من بيوتهم مع أجهزتهم أو كتابهم المفضل أو بصحبة شريكة قلب وحياة، مستدفئين بظلمة الحمراء الحميمية.
حاول التنظيم تكرار جريمة رأس السنة في إسطنبول، الهدف اغتيال قلب المدينة، وغرس جرح يصعب برؤه، والغضب الراديكالي من بهجة لبنان تاريخي ومشهود، ولهم في هجاء بيروت صولاتهم وجولاتهم، غير أن العيون المفتوحة، والتركيز الأمني العالي، بأعصابٍ باردة، سهّلا من اجتياز الخطر. ولبنان مهدد من آثار الأزمة السورية، ومن الجيوب المختبئة، وبالتأكيد أن ثمة خلايا نائمة تنتظر أوامر الانقضاض، ذلك أن الأعداد الكبرى من اللاجئين السوريين سيندسّ بينهم من يضمر الشر للبنان وهذا افتراض معروف لدى الأجهزة الأمنية، والرئيس اللبناني ميشال عون بافتتاحه لـ«العهد الجديد» عبّر عن قلقه المتصاعد من وضع اللجوء، باعتبار المجتمع اللبناني يستضيف ما يقرب من نصف سكانه وهذا ليس له مثيل بالعالم، تحديات إرهابية وبيئية، بطول المسافة بين أسراب من الطيور تهدد الطائرات بمطمر «الكوستا برافا» وإلى ذئاب منفردة تهدد الأبرياء بمقهى «الكوستا كوفي».
إعلان الحرب على شارع الحمراء به استهداف قاسٍ للتنوع اللبناني بطوائفه وأديانه، وقصد معلن لتدمير الثقافة التي بثها لبنان المرح على العرب والخليج منذ الخمسينات الميلادية حين بدأ الاحتكاك والتأثير بين مجتمعات الخليج والمجتمع اللبناني، وكل الآثار التي أضافها لبنان على مستوى الصحافة والإعلام والأدب وتغذية مقومات التنوع باعتبارها «جغرافيا الهويات» لها تأثير نافس المد المصري فنيًا وجماليًا حينها. يروي سمير قصير في كتابه «تاريخ بيروت»: «كان عالم المجلات يتقاطع على نحوٍ واسع مع عالم السينما التي شكلت منذ العشرينات إحدى النوافذ الرئيسية التي ترى منها بيروت العالم الخارجي. شهدت شبكة الصالات السينمائية، التي لا مثيل لها في الشرق الأدنى كله، توسعًا مطردًا وكانت تضمن لزائريها أنها لن تفوت عليهم أي شيء مهم مما تنتجه هوليوود أو شينيشيتا أو باريس وكذلك القاهرة، وأنشئت منذ الخمسينات صالات عدة في محيط وسط المدينة إلى جوار الصالات القديمة... فصارت بيروت مسرحًا مدهشًا... وخصوصًا شارع الحمراء الذي سرعان ما غصّ بالصالات»، مذكرًا بتاريخ صالات سينمائية مثل سينما الحمراء، وكريستال، وأوبرا، وإمبير (ص 414).
أمام لبنان تحديات كبرى، الهوية اللبنانية والتنوع الذي تعيشه لا تفضله الجماعات الأحادية، ذلك أن للبلد تاريخه مع الحياة، يصف ذلك إريك أمبلير: «كل شيء يوحي بالجو الذي مهّد للأساطير العظيمة، وتبدو لك الصور التي تشاهدها بعيون الروح حقيقيةً أكثر من أي جمادٍ حولك».