غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

عروض قيصرية فوق الحصانين الإيراني والتركي

في السيرك الروسي، يقدم الرئيس فلاديمير بوتين عرضًا قيصريًا على ظهر الحصانين الإيراني والتركي. ويجري خلفه «زلمته» السوري الباحث من جديد عن مصيره ومستقبله، فيما دُعي إلى المشاركة في العرض راعي المدرسة الشعبوية الأميركية دونالد ترمب.
جاء العرض القيصري في آستانة كازاخستان، بمثابة انعطافة روسية سلمية بالحرب السورية التي أشعلها بوتين بضراوة خلال العامين الأخيرين. وجرب إنهاءها في نهاية السنة الأخيرة، بهدنة وافقت عليها الأمم المتحدة، من دون أن تشارك في فرضها.
في الحروب المدنية والطائفية، ليس هناك من رابح أو خاسر. فاللعبة الجهنمية تقتضي أن يخسر الجميع. هذا هو الأمر الواقع في الحرب السورية. لكن في مرحلة من المراحل الطويلة لهذه الحروب، تتصور بعض الأطراف المشاركة فيها أنها كسبت مغانم على حساب أطراف أخرى.
وفي المرحلة القيصرية الراهنة، يعتبر الحصان الأسود الإيراني نفسه الكاسب من معركة حلب التي شاركت ميليشياته فيها. ومن المعركة في الريفين الشرقي والغربي لمدينة دمشق التي استغل بشار الهدنة فيها، لتوسيع «حدود العاصمة»، على حساب التنظيمات الدينية المعتدلة.
ومع أن هذه التنظيمات استغلت بدورها حرب حلب التي خسرتها، لتوسيع المناطق التي تحتلها في ريف مدينتي حمص وحماة في وسط سوريا، إلا أن إيران بالغت في تصوُّر مكاسبها وغنائمها.
وصلت هذه «البَهوَرَة» الإيرانية إلى حد فرض «فيتو» على مشاركة الدول العربية في رعاية مهرجان آستانة. ويبدو أن القيصر استجاب للشرط الإيراني. وإن كانت الاستجابة تنطوي على ضيق روسي بالعباءة الإيرانية التي تحاول استيعاب «العلمانية» التي يرسمها القيصر لسوريا في التسوية السياسية.
هل المشاركة التركية في المهرجان الروسي تكفي لتنوب عن مشاركة رسمية عربية في مؤتمر مهمته الأساسية معالجة قضية عربية؟ يبدو أن النظام الخليجي غير راغب أصلاً في المشاركة، بمؤتمر لا ينضوي تحت شرعية الأمم المتحدة. لكنه سمح للمعارضات السورية المسلحة المعتدلة بالمشاركة في المؤتمر، وكذلك فعلت تركيا مع المعارضات السورية التي تهيمن عليها إرضاءً لخاطر روسيا صاحبة المهرجان.
أعود لأسأل عما إذا كان الحصان الأسود الإيراني يقبل بتسوية دولية/ روسية للحرب السورية، على أساس «ديمقراطية علمانية» لا دينية؟ من البديهي أن ترفض دولة دينية هذه التسوية. وقد تعتقد أنها قادرة على «خربطتها» بالجيش الميليشياوي الذي تحتفظ به في سوريا، ويضم نحو 15 ألف مقاتل، بمن فيهم مرتزقة «حزب الله» الشيعي اللبناني.
هذا يعني أن روسيا وإيران سائرتان نحو تضارب مصالح وآيديولوجيات في سوريا. روسيا لن تقبل بدور إيراني «مخرب» لسلامها الذي تحاول فرضه في هذا البلد العربي. وحتى «قريبها» الرفيق ترمب لن يقبل بـ«تشييع سوريا».
ولعل هذا هو السبب في رسم جواد ظريف وزير خارجية إيران ابتسامته التقليدية، وهو يدعو السعودية، على منبر منتدى دافوس العالمي في سويسرا، إلى «مهادنة» إيران. وكان يرد على تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي أبدى فيه تشاؤمه من إمكانية إيران استعادة السلام مع العرب، بعد انتهاكاتها المستمرة لسيادة الخليج. وسوريا. واليمن.
كيف يقع الوزير الإيراني في هذا التناقض الكبير بين موقفه «المهادن» في دافوس، وموقف الحصان الإيراني الرافض لمشاركة دول الخليج في مهرجان آستانة؟! هذا ربما يكشف السياسة الإيرانية إزاء سلام المنطقة. وإزاء التسوية الدولية في سوريا. واليمن.
في غمرة هذه التساؤلات، يصح التساؤل أيضًا عما إذا كانت الانعطافة السلمية الروسية قادرة على تحقيق تسوية سياسية عادلة للحرب السورية، بالتعاون مع الأمم المتحدة؟ الجواب هو أن هناك متفائلين بالمبادرة الروسية يستندون إلى قدرتها على الحسم بقوتها الميدانية والجوية. وهناك متشائمون يرون فقط النصف الفارغ من الكأس. ثم هناك المتشائلون الذين ينظرون إلى الخريطة الإيرانية في سوريا.
النظرة المتشائلة تقوم على أساس الظن بأن الكتلة السنية الطائفية والسياسية خسرت الحرب السورية، لأسباب متعددة. في مقدمتها تخلي تنظيماتها السياسية والمسلحة عن هويتها العربية، الأمر الذي شجع الأكراد على الانفصال بشمال شرقي سوريا المجاور للحدود العراقية والتركية.
الواقع أن التنظيمات المسلحة السورية لم تكن جادة في القتال. وعجزت عن تجنيد عشرات ألوف الشباب السوريين. وتقوقعت في مناطقها المحلية، معرضةً قواتها القليلة العدد نسبيًا، إلى الغارات الوحشية السورية والروسية. وأخيرًا، فانتهازية هذه التنظيمات نفرّت المجتمعات السنية والمسيحية، بالأسلوب المتزمت في التطبيق الديني. أما «داعش» و«النصرة» فيتبرأ منهما النظام العربي والطائفة السنية، لتخلفهما في فهم الشريعة والحضارة العربية.
كل هذه الأسباب المهددة لتماسك نسيج الكتلة السنية العربية في العراق وسوريا، في كفة. والاستيطان الشيعي في الكفة المقابلة. يجري الآن تهجير التجمعات السنية المسلحة والسكانية إلى محافظة إدلب، ليتولى الطيران الروسي والسوري قصفها وإبادتها هناك.
الغرض إسكان الميليشيات الشيعية الأفغانية. والعراقية، في منطقتي التهجير الأساسيتين: منطقة القلمون المحاذية للمنطقة الشيعية في لبنان. والقرى المحاصرة التي جرى تهجيرها في ريف دمشق الشرقي والغربي. كما تم الاستيلاء في ريف دمشق على مقام السيدة زينب حفيدة الرسول العربي.
من يتفحص خريطة الاستيطان الشيعية، يدرك العزم على زرع مستوطنات شيعية في صميم الفراغات السنية. لأن سوريا أصلاً خالية تقريبًا من الشيعة. وإيران تدرك استحالة احتلالها، إذا لم يتم استيطانها طائفيًا.
أتكلم بالمنطق الطائفي المفهوم للمشروع الشيعي السائد حاليًا في المشرق العربي، لأسأل هل الطائفة العلوية (التي جرى تكفيرها في إيران الخميني) تقبل بالاستيطان الشيعي المعادي لها في سوريا؟ وإذا قبلت الطائفة العلوية، فهل يقبل القيصر بوتين باستقبال «المهدي المنتظر» في سوريا، على ظهر الحصان الأسود الإيراني، فيما يزعم أن تسويته السلمية السورية ستكون «علمانية» لا تقبل باستيطان طائفي. أو حكم ديني؟!
وإذا قبل القيصر بالدور الإيراني في سوريا، فهل يقبل ترمب به، وهو الذي يتجه إلى إعادة النظر بالاتفاق النووي الذي عقدته أميركا أوباما وأوروبا مع إيران؟!