د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

صناعة المستقبل

كانت منطقة الشرق الأوسط جزءا مهما من حركة العالم تجاه المستقبل أو الأزمنة القادمة بشكل عام. في البداية وفي التاريخ القديم كانت المنطقة بمعنى من المعاني هي العالم ليس بمعنى الوجود البشري، وإنما لأن الحضارات القديمة كلها من السومرية إلى الفرعونية وما بينهما كانت هي موئل التطور البشري ومكانه. وعندما جاءت الديانات السماوية فإنها أعطت المنطقة بعدا روحيا سرعان ما أصبح مرتبطا بالعالمية التي تشمل الجنس البشري كله. ومع عصر الإمبراطوريات الكبرى من الهلينية إلى الفارسية إلى الرومانية، إلى العربية الإسلامية ثم التركية الإسلامية، فإنها جميعا دارت حول البحر الأبيض والمنطقة المعروفة الآن باسم الشرق الأوسط. صحيح أن التطور الحضاري قد انتقل خاصة بعد عصر النهضة الأوروبي، ومن بعده الثورة الصناعية والعلمية الأولى إلى أوروبا، فإن القارة الفتية آنذاك وجدت في عبور البحر استعمارا أو استكشافا ضرورة أساسية لاستمرار شعلة الازدهار. وخلال الحرب العالمية الأولى كانت المنطقة مسرحا من مسارح الحرب الكبرى، سواء كانت الحرب عمليات عسكرية أو مؤامرات وتوافقات دبلوماسية. ولم يختلف الأمر كثيرا سواء أثناء أو بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، وحتى فيما بعد حينما ولد العالم الجديد الذي أخرجه جورج بوش الأب في مطلع تسعينات القرن الماضي؛ وبعد أن شن جورج بوش الابن حربا عالمية ضد الإرهاب.
في كافة العصور تقريبا كان الشرق الأوسط جزءا من ماضي ومستقبل الدنيا بحلوها ومرها من خلال ما يجري فيها من حروب، وما يرد عليها من تسويات. وفي التقرير الأخير الذي أصدرته مبادرة «ميست eMiddl (TSEast Strategy Task Force (ME «والتي كانت مبادرة أميركية للحزبين الديمقراطي والجمهوري (مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد بيل كلينتون؛ وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في عهد جورج بوش الابن) صدرت عن المؤسسة البحثية «مجلس الأطلسي»، فإن التقرير يذكر بوضوح أن ما يجري بحثه «ليس أزمة في الشرق الأوسط وإنما أزمة تؤثر على الكرة الأرضية»، ومن ثم فإن «الولايات المتحدة لا تستطيع أن تسير بعيدا عن مشاكل الشرق الأوسط». والمؤكد هو أنه إذا كانت أميركا لا تستطيع البعد عن مشاكل منطقتنا، فإننا الذين نعيش فيها لا يمكننا أيضا الابتعاد أو التغاضي عنها أو إنكارها، بل إن واجبنا هو التعامل مع الواقع بكل الحزم والعزم اللازم، والتحضير للمستقبل الذي إذا لم نصنعه فإنه سوف يطاردنا في حاضرنا.
التقرير في الحقيقة يعترف بذلك، فمشاكل الشرق الأوسط ليست مشاكل أميركا وحدها لكي تحلها، وإنما لأن «الأيام التي كان فيها الفاعلون الخارجيون يستطيعون وحدهم أن يقرروا الأحداث في الإقليم قد انتهت». «لقد حان الوقت لكي تقوم المنطقة بأخذ مسؤولية أكبر في وضع وتعريف رؤيتها للمستقبل». كما يلاحظ التقرير أيضا أن هناك علامات وبدايات تشير إلى أن دول المنطقة أخذت على عاتقها هذه المسؤولية نتيجة عاملين: انخفاض أسعار النفط الذي فرض على الحكومات أن تتعامل مع أوضاع اقتصادية صعبة لا يمكن تلافيها دون الإصلاح الاقتصادي الملموس؛ والتكنولوجيات الجديدة التي أعطت تمكينا لقطاعات واسعة من المواطنين خاصة الشباب لكي يكون أكثر مشاركة في صناعة مستقبله. التقرير يعطي أمثلة لهذا وذاك من السعودية ومصر وسوريا والأردن ودبي. ورغم أهمية العاملين فإن العامل ربما الحاسم في القضية كان الثمن الفادح الذي دفعته المنطقة مالا وضحايا لحالة الفوضى الكبيرة في المنطقة، والتي أدت إلى وقوع الدولة الوطنية تحت تهديد كبير بالحرب الأهلية، والانهيارات المادية والمعنوية، بل والاعتداء المباشر على القيم الدينية من قبل جماعات وحشية. التقرير في النهاية يلاحظ بتفاؤل «أن أهم الأمور هي أنه لا ينبغي التقليل من قدر شعوب المنطقة، لأنهم أكثر موارد الشرق الأوسط أهمية. وهؤلاء لا بد من التعامل معهم على أنهم قلب الحل» لما اعترى الإقليم من معضلات وأزمات.
ورغم الأهمية الكبيرة للتقرير الذي شارك في عملية الإعداد له عدد كبير من المشاركين أكثرهم من الولايات المتحدة وبعضهم من الإقليم؛ فإن الساحة في الإقليم مفتوحة للاجتهاد، بل إنه مطلوب بشدة سواء من السياسيين أو الخبراء الاستراتيجيين أو أصحاب الرأي بوجه عام. ومن المدهش أنه رغم أن صناعة مستقبل الشرق الأوسط باتت صناعة كبيرة في الدول الغربية، فإن الجهد العربي في هذا الشأن لا يزال قليلا ومحدودا؛ حتى إن بعضه جرى ونشر خارج العالم العربي وليس داخله. وفي بعض الأحيان فإن الجهد كان نوعا من طرح سلة كبيرة من الاحتمالات التي قد تكون مفيدة في التحضير لسياسات بعينها، ولكنها في حد ذاتها لا تكفي. الدكتور محمد عبد الله يونس طرح في مركز المستقبل في أبوظبي (29 ديسمبر/كانون الأول 2016) لعشرة مفاهيم تحدد ليس فقط مستقبل المنطقة وإنما العالم أيضا، أولها ما سماه «عدم الاستقرار الممتد» أو acted InstabilityProtr أي إن مستقبلنا سوف يكون بشكل أو آخر امتدادا لحاضرنا. وفي المقابل سوف نجد ثانيها مفهوم «التعافي والارتداد للتوازن»، حيث تستجمع المجتمعات طاقاتها المفقودة لكي تتعافى من المحنة التي مرت بها. وثالثها ربما يكون الأكثر تشاؤما، حيث تكون هناك «مجتمعات بلا دولة» وهي حالة تعود بالمجتمعات إلى حالتها البدائية، حيث يجري القيام بوظائف الدولة دون مؤسساتها عند مستويات متدنية من الإنجاز، وهي حالة عرفناها في لبنان الذي عاش في أوقات دون رئيس أو حكومة وتولت الميليشيات القبلية والعشائرية المهام الأمنية. ورابعها نجد ما يسمى «صراعات المناطق الرمادية»، أي تلك التي تعيش على الحافة بين الحرب والسلام، وهي حالة قلقة، وغير مستقرة ربما تقود إلى مفهوم خامس وهو «تسويات الحد الأدنى» حينما تقبل الأطراف المتصارعة حدودا دنيا من العلاقات. وكما نرى أن كل المفاهيم السابقة غير مبشرة إلا بدرجات مختلفة من التعامل مع واقع صعب، ويزداد صعوبة مع وجود حالات أو مفاهيم مثل ما نجده في سادسها عن «الإرهاب الشبكي»، وسابعها عن «خطاب الشعبوية»، وثامنها «الانكشاف السيبراني»، وتاسعها «اقتصادات المشاركة»، وعاشرها «ارتداد العولمة». هذه المفاهيم الأخيرة كلها تدور حول أن العالم الذي بدأ مع الألفية الثالثة في العالم ليبراليا متفائلا بقوة العلم والتكنولوجيا والتواصل العالمي كله، يواجه حالة من النكسة والتراجع الذي تتفاوت درجاته.
المفاهيم العشرة على أهميتها في توضيح الحال، إلا أنها تخلو من دور للسياسة وقدرتها على تجاوز مضاعفات الواقع كما جرى في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما جرى بعد انتهاء الحرب الباردة من تغيير للعالم من خلال مؤسسات جديدة لم تكن موجودة من قبل. التفكير السياسي موجود بدرجات مختلفة في العالم، ولكن أهم ما يحتاجه فهو أن يبدأ من منطقتنا، وإذا كانت هناك مشروعات وطنية مثل 2030 في مصر السعودية، فربما آن الأوان لكي يكون هناك مشروع إقليمي للمستقبل. من الآن وليس غدا.