خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الذبابة الملعونة

ما من مخلوق صاحب الإنسان طوال تاريخه كالذبابة. ورد الكثير من النكات والتعليقات وغنى عنها المطربون والكوميديون في سائر اللغات، ومنها العربية، تغنى بها سامي أفندي وعمرو المصري وسواهما.
أغنية الذبابة الملعونة شاع أمرها واستظرف شأنها الهزليون: لم لم لم، ذبابة رفرفت حول الزجاجة، هددتها، فطارت، ثم قالت وانت مالك؟ خليك في حالك... الخ.
ومن وحيها صيغت لعبة الذبابة. وجاء ذكرها مراراً في الأدب العربي. قالوا إنها صاحبت وأغاظت الخليفة المنصور أثناء انهماكه في بناء مدينة بغداد. كان عليه أن يتعظ من ذلك ويبني مدينته على تربة أنظف من الذباب. لم يفعل بل نادى على الحاجب وسأله: انظر من على الباب؟ قال: نظرت. هناك شلة من الشعراء يا مولاي. قال: دعنا منهم. هذا ليس بموضوع للغزل أو المديح. فمن على الباب من العلماء؟ فجاءه بمقاتل ابن سليمان، أحد حكماء عصره. فسأله الخليفة: أتعلم لأي حكمة خلق الله الذباب؟ قال: خلقهم الله يا مولاي ليذل بهم الجبابرة. فأجازه الخليفة على جوابه، الذي لم يشفه ولا أبعد الذباب عنه. كانت كلمة حكيمة تماماً. فحتى عندما زارت الملكة اليزابيث، ملكة بريطانيا والكومنولث، بعض جهات أفريقيا والمنطقة العربية، رأيتها على التلفزيون تقطب وجهها وتعكنش فمها وتغمض عينيها وهي تكش بيدها الذبابة. لم أجد أو أسمع مرة واحدة أن ملكة بريطانيا قد فقدت أعصابها كما لاحظت في تلك المناسبة الذبابية. الظاهر أن الذباب سمع بمقدم ملكة بريطانيا فعقدوا العزم على المشاركة في الترحيب بها. فما أن جلست على كرسيها الأنيق حتى هم الذباب بزيارتها، واحداً تلو الآخر. أنا على أنفها أو عينها، وأنا أطنطن في أذنيها دون أن تفهم الملكة كلمات الذباب أو يفهم الذباب شيئاً من كلماتها. رأيت القوم المحتفلين بها لا يعرفون ماذا يفعلون لدرء ذلك الذباب عنها. ولا هي عرفت كيف تضبط أعصابها.
وقيل إن فارساً من فرسان الهند انبرى بسيفه يهاجم الهواء أمامه ويشتم ويهدد ويعربد. لم ير القوم أحداً أمامه فتصوروا أنه قد مسه الجنون فسألوه فقال: هذه الذبابة اللعينة.
الشيء اللعين في الذباب أنه كإعلانات الكوكاكولا تطويها جانباً إلا لتعود فوراً من حيث كانت. وتستمر المعركة بينك وبين الذبابة. تطرها فتعود وتعود لتطردها وكأن رسالتها في الحياة هي أن تحط على وجهك رغم علمها بأن أنفك أو شفتك أو عينك ليست شيئاً يأكله الذباب.
وعلى نهج ذلك الفارس الهندي، ابتلي أحد قادة الجيش العراقي بهجمة عاتية من الذباب في معسكر الرشيد ببغداد. فقد صبره فلم يتمالك غير أن يسحب مسدسه وعدو كالمجنون وراء هذا العدو الذي لا يرحم. راح يطلق الرصاص عليه والعدو لا ينفك من مهاجمته من حيث لا يعلم وبقية الضباط يهرعون إلى المقر ظناً منهم بأنه انقلاب عسكري جديد.