طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

شخصية العام وسارقو الأحلام

في الساعات الأخيرة من العام الذي رحل، والساعات الأولى من العام الذي يولد، يحلو للفضائيات والصحافة البحث عن شخصية العام، وعادة يصبح رجل سياسة أو فنانًا أو إعلاميًا شهيرًا قدم مشروعًا أو فكرة استحوذت على الاهتمام، إلا أنني لي زاوية مختلفة، أرى أن شخصية العام، هو من يقدم نفسه كنموذج وليس من يقدم مشروعًا نموذجيًا، وبهذا المقياس أتوقف أمام سيدة مسنة من مدينة الإسكندرية، التي كان يضرب بها المثل حتى خمسينات القرن الماضي، باعتبارها مدينة «كوزموبوليتان»، أي أنها تضم بين سكانها كل الأعراق والأديان والجنسيات، وهكذا تجد المصري واليوناني والخليجي والمجري والشامي، ولديك المسلم والمسيحي واليهودي، وأيضًا الأبيض والأسود في هارمونية تؤدي إلى مزيد من التسامح.
مع الزمن لم تعد الإسكندرية كذلك، إلا أنها لا تزال «فيها حاجة حلوة»، هكذا استوقفتني شخصية العام، السيدة المسنة التي قررت في تلك الساعات المسروقة من عمر الزمن، أن تحقق أمنية باتت مستحيلة، لقد واجهها مع الأسف الكثيرون بالسخرية، وأودعها أهلها أو ما تبقى منهم دار المسنين، رغم ذلك تقبلت الأمر بصدر رحب، وقالت أخيرًا سأجد من يحنو عليَّ من زملائي في الدار.
ولكن قبل أن نصل للفصل الأخير، دعونا نتابع الفصول الأولى، طفلة تولد في خمسينات القرن الماضي، وتجد نفسها بعد رحيل الأب والأم مسؤولة عن الأسرة، فترجئ كل ما هو خاص وتجهض حلمها بالزواج، حتى تؤدي أولا واجبها أمام أسرتها، ويمر زمن ويتزوج الإخوة وآخرهم كانت تعتبره ابنًا لها، وتكتشف أنه قد فاتها قطار الزواج وسرقتها السنين، ولم يتبق سوى أن ترضى بالوحدة، ثم يرحل شقيقها الصغير عن الدنيا مبكرًا، وتستبد بها الأحزان، إلا أن الإنسان لا شعوريًا في عز الدموع يُمسك بلحظة سعادة حتى لو كانت مستحيلة، إنه حلم الفرح وبجوارها العريس، فتقرر بما تبقى لها من أموال، أن تحقق المستحيل، فتؤجر قاعة في أحد الأحياء الشعبية، وتستعير فستان الفرح، وتذهب للكوافير، وتتوجه للقاعة وتجلس في «الكوشة»، يلاحظ أهل الحي أنه لا يوجد عريس ولا مأذون ولا حتى معازيم، لم يستوعبوا الأمر في الوهلة الأولى، ولكن أحدهم استشعر أن الأمر قد يحمل شيئًا ما، فهذه القاعة وخصوصًا كل يوم الخميس تشهد فرحًا صاخبًا، فلماذا كل هذا الهدوء، والعروس بمفردها في القاعة، يقترب منها هذا الرجل «الجدع»، ويسألها هل لديك عريس؟ أجابته أبدًا، وواصل هل من الممكن أن أصبح أنا هذا العريس؟ وكانت الإجابة نعم، فخلع دبلة من أصبعه، ووضعها في أصبعها، وانطلقت السعادة من عينيها قبل أن تنطق بها، وتمسكت بالخاتم وشعرت، وكأنه أغلى هدية في الدنيا منحها لها القدر الضنين، تحولت في لحظات إلى بطلة على «السوشيال ميديا»، ولكن مع الأسف نالها الكثير من السخرية، لم تجد أبدًا إلا عددًا محدودًا جدًا يحنو عليها، الواقع القاسي والسعادة التي تغرب، والعمر الذي يمضي بعيدًا عن حلم «الكوشة» هو حق لها، ومهما رأى البعض أنه بعيد المنال فإنها أبدًا لن تستسلم للأحزان، ولن تترك فرصتها تضيع، هي إنسانة مدركة لكل التفاصيل، وتعلم أن مَن منحها الخاتم لم ولن يكون زوجًا لها، وأن فستان الزفاف الذي استعارته سوف تعيده مجددًا للمحل، وأنها في طريقها لدار المسنين، إلا أنها سرقت لحظة فرح من الزمان الشحيح، فلماذا صارت مشاعرنا الدافئة أيضًا شحيحة؟!