نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

أزمات دستورية تعصف بالعالم

تعرضت الكثير من الأنظمة الدستورية في مختلف أرجاء العالم للاختبار خلال عام 2016، وبالنظر إلى تركيا وبولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، نجد أن كل حالة منها تسلط الضوء على كيف أن الترتيبات الدستورية المختلفة تستجيب للتحديات الناشئة عن الفرق السياسية المختلفة.
ودعونا نبدأ بأسوأ الأزمات الدستورية، تلك التي ألمت بتركيا خلال الفترة اللاحقة مباشرة لمحاولة الانقلاب العسكري ضد حكومة رجب طيب إردوغان. وتتسم هذه الأزمة بخلفية معقدة: كان حزب العدالة والتنمية الذي يتبعه إردوغان قد فاز في الانتخابات الوطنية أعوام 2002 و2007 و2015، علاوة على أنه جرى انتخاب إردوغان على نحو مباشر لمنصب الرئيس عام 2014، وجاءت جميع هذه الانتخابات نزيهة، وأقر معظم المراقبين فكرة أن غالبية الأتراك أبدوا تفضيلهم لحزب إردوغان على امتداد عقد ونصف العقد.
إلا أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدها الصيف الماضي بدلت المشهد الدستوري داخل تركيا على نحو عميق، ذلك أن إردوغان لم يتمكن فحسب من تطهير صفوف المؤسسة العسكرية، بل كذلك المؤسسة القضائية، الأمر الذي قوض حكم القانون على نحو خطير.
أما بولندا فتشكل حالة أقل خطورة، لكنها تبقى مثيرة للقلق. كان الحزب الحاكم في بولندا، حزب العدالة والقانون اليميني القومي، قد بدأ عام 2016 في محاولة التلاعب في المحكمة الدستورية، بحيث لا تعوق اعتداءات الحزب على الحقوق الديمقراطية. بحلول الربيع، اندلعت مظاهرات ضخمة من جانب حركة داعية للديمقراطية. في المقابل، شددت الحكومة موقفها رغم التحذيرات التي وجهها إليها الاتحاد الأوروبي.
هذا الشهر، فرض حزب العدالة والقانون قيودًا جديدة على الصحافيين الذين يتناولون تغطية أخبار البرلمان، الأمر الذي أثار بدوره موجة جديدة من المظاهرات.
من ناحية أخرى، فإن المملكة المتحدة تمثل النظام الدستوري الفاعل الأقدم على وجه الأرض. وعلى خلاف الحال مع تركيا وبولندا، تتمتع المملكة المتحدة بخبرة واسعة في التعامل مع السياسات الحزبية. بصورة عامة، دائمًا ما حرصت بريطانيا على مواجهة تحدياتها بالاعتماد على التقاليد الدستورية التي لا توجد في وثيقة واحدة مكتوبة، ما خلق نظامًا يعتمد على نظرية السيادة الدستورية التي تحترم حقوق جميع الأقليات. من المنظور الدستوري، يبدو هذا النظام أشبه بمعجزة - ولم تفلح أي دولة حتى يومنا هذا في محاكاته.
ومع ذلك، تشهد بريطانيا تبدلاً في أوضاعها في الوقت الراهن، فمنذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي تعرضت البلاد لضغوط مستمرة لدمج هذه الحمايات الدستورية في الهيكل التشريعي - ذات التوجه المستخدم في أغلب الدول الأوروبية، ويعتمد بدرجة كبيرة على نموذج المحكمة الأميركية العليا خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تجلت فوائد ومخاطر هذا التحول بدرجة بالغة خلال الجدال الذي ثار حول ما إذا كانت الحكومة التي يقودها المحافظون يمكنها الانفصال رسميًا عن الاتحاد الأوروبي في أعقاب استفتاء شعبي دون إجراء تصويت منفصل داخل البرلمان.
فيما مضى، كان مثل هذا الجدال يحسم داخل البرلمان. الآن، أصبح يجري داخل أروقة المحاكم.
من منظور دستوري مقارن، ربما يبدو هذا التحول تقدمًا نحو الأمام - لكن يبقى من المحتمل كذلك أن يكون تقهقرًا إلى الخلف. من ناحية أخرى، فإنه في مواجهة انقسام سياسي عميق حول الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، تعتمد بريطانيا على تقنيات دستورية جديدة، بدلاً عن تقاليدها التي نجحت تاريخيًا في إدارة الانقسامات الحزبية بصورة جيدة.
في المقابل، نجد أن الولايات المتحدة تشكل نموذجًا مثاليًا لنظام دستوري يناضل للتعامل مع الانقسامات الحزبية عبر الاعتماد على المحاكم - وحدود إمكانات هذا التوجه. جدير بالذكر أن مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الجمهوريون نجح في منع باراك أوباما من تعيين قاض بالمحكمة العليا كان من شأن وجوده بها المعاونة في تحقيق توازن في الحقوق الدستورية في مواجهة إدارة تنتمي للحزب الجمهوري.
ويقتضي الإنصاف القول بأن الجمهوريين داخل مجلس الشيوخ لم يكونوا يعتقدون أن دونالد ترامب سيفوز في الانتخابات الرئاسية. وعليه، فإنهم كانوا يحاولون حماية موقفهم وليس توسيع نطاق سلطات حزبهم. إلا أنه الآن في ظل وجود كونغرس يهيمن عليه الجمهوريون ورئيس ينتمي إلى الحزب الجمهوري، فإن المحكمة ستتمكن من تقييد حركة الكونغرس والرئيس فقط طالما أنها لا تضم أغلبية جمهورية قوية.
ويقع جزء من اللوم عن ذلك على عاتق الآباء المؤسسين الذين صمموا الدستور على نحو يحول دون وجود الأحزاب السياسية، وليس ليأخذها في الاعتبار. وعليه، أصبح من الصعب على الحزب الذي يهيمن على الكونغرس كبح جماح الرئيس عندما ينتمي إلى الحزب ذاته. من جانبها، سارعت المحاكم إلى التدخل في محاولة لإصلاح هذه المشكلة عبر حماية حقوق الأقليات.
إلا أن الحقيقة المثيرة للقلق الآن أن الحمايات الدستورية الموجودة داخل الولايات المتحدة تعتمد في جزء منها على مقامرة على مدى قوة القضاة الليبراليين الأكبر سنًا داخل المحكمة. على امتداد الجزء الأكبر من مسيرته، نجح النظام الأميركي، لكن الشهور والسنوات القادمة ستحمل اختبارات صعبة له.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»