خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بين الظرف والكرم

بنجامين دزرائيلي من أشهر ساسة بريطانيا في القرن التاسع عشر. وبما عرف عن اليهود من روح الفكاهة والنكتة، ورث دزرائيلي كثيرا من سلالته التي نشأ منها قبل أن يتنصر. تولى رئاسة الحكومة عدة مرات. وقدر عليه أن يخوض معركة انتخابية ضد غريمه اللورد غلادستون. كان هذا متدينًا ومحافظًا جدًا. بيد أن أنصار دزرائيلي اكتشفوا عنه هذه الفضيحة، وهي أنه قد اتخذ سرًا خليلة له وأنجبت منه ولدًا في الخفاء. هرعوا إلى دزرائيلي وأنبأوه بالفضيحة واقترحوا التشهير بها أثناء الحملة الانتخابية. بيد أن دزرائيلي حذرهم وقال: «اسكتوا. لا تذكروها مطلقًا. إن غلادستون قد تجاوز الثمانين عامًا الآن. إذا سمع الشعب البريطاني الآن أن هذا العجوز قد أنجب طفلاً من عشيقة له، وهو في الثمانين من عمره، فسيعطي الناخبون كل أصواتهم له»!
لافتة ظريفة! بيد أن الظرف لم يكن كل سجاياه. كان كريمًا أيضًا حتى مع خصومه. وكانوا على كثرة. برز منهم الكاتب الشهير توماس كارلايل، صاحب كتاب «الأبطال وعبادتهم» الذي خصص فيه جزءًا كبيرًا عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم. بيد أنه كان أيضًا من شيوخ البلد، الطاعنين في السن. وأخذ يعاني من الفقر وضيق الحياة. وكان يكره دزرائيلي ولا يترك فرصة تمر دون أن ينال منه ويشجب في عرضه وسلوكه وسلالته. قال «إنه مشعوذ عازم على الشعوذة». عرف دزرائيلي كل ذلك، لكنه لم يمنعه من التوسط له لدى الملكة فيكتوريا، طالبًا منها منحه ما يستحق من عون.
في رسالة طويلة، أشاد بدور الملكة في تشجيع العلوم والعلماء. وأضاف قائلا: «ألا يمكن القيام بشيء مشابه للأدب؟ الأدباء النوابغ قليلون الآن، بحيث لا نجد صعوبة في الاختيار بينهم، وإذا ما شئنا منحهم بعض المكرمات. لا أرى غير كاتبين لهما مكانة بارزة في الوقت الحاضر تستحق ذلك، وهما الشاعر تنيسون والمؤلف توماس كارلايل».
«المستر كارلايل كبير السن الآن ومن دون أولاد وفي حالة عوز، لكنه يتمتع بشعبية كبيرة ويحترمه الجمهور. لا توجد الآن درجة (كي سي بي) شاغرة. هل نعتبر درجة شرف (جي سي بي) أكثر من حقه؟ ربما يمكننا ربطها بمعاش تقاعد له».
تحمست الملكة للاقتراح، فنقل دزرائيلي ذلك إلى كارلايل برسالة أديب بليغ يخاطب أديبًا بليغًا. احتفظ المؤرخون بها كنموذج من نماذج الأدب السياسي البارع. فقد دارى بها مزاج توماس كارلايل وكرهه له، بحيث تقبلها هذا بهدوء.
وعندما أذكر ذلك لا أملك غير أن أشير فأقول إن الإمبراطورية البريطانية لم تشيد بالساسة البارعين والعساكر الأبطال فقط، وإنما كذلك بمثل هذه الروح التي تتضمن الظرف والكرم والتسامح وتجاوز الذنوب والخصومات وبالاعتراف بالقدرات والملكات في سائر الميادين وبعيدًا عن العداء الشخصي.