مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

من يخاف من دونالد ترامب؟

دونالد ترامب والحديث عمّا سيكون تأثيره على العالم العربي، هو حديث كثير، وتحليلات أكثر، ولكن في نهاية المطاف لن يكون لترامب تأثير مختلف عن سابقيه من الرؤساء، من نيكسون إلى أوباما. لماذا؟ هذا يحتاج إلى توسيع عين الكاميرا للحديث عن الحالة العربية خلال المائة عام الأخيرة.
قد يكون أمرًا مبالغًا فيه أن أقول إن ظهور السيدة تيريزا ماي في قمة مجلس التعاون الخليجي من ناحية، ووجود القوات الروسية في سوريا من ناحية أخرى، هما حدثان يذكّران، رغم التناقض بين المصالح، بتحالف بريطانيا مع روسيا القيصرية (الحلفاء) ضد الإمبراطورية العثمانية (المحور) في زمن الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، تلك الحرب التي أدت إلى ذبح الإمبراطورية العثمانية، التي ما زالت دماؤها تسيل حتى اليوم، الحرب التي كان فيها أغلبية العرب مع الحلفاء وقليل منهم إضافة إلى الأمازيغ والأكراد وبعض الأقليات مع المحور. كانت حربًا ضخمة في مسرح الشرق الأوسط عقدت خلالها الاتفاقية السرية بين بريطانيا وفرنسا وبمعرفة وقبول من روسيا القيصرية، التي أدت إلى تقسيم مناطق النفوذ في الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وها نحن الآن أمام سؤال الهلال الخصيب ذاته، حيث الكارثة في سوريا، وتفكك الدولة في العراق، إضافة إلى الأزمة الفلسطينية المزمنة.
ورغم حديث العرب الدائم عن اتفاقية «سايكس - بيكو» (1916) وتأثيرها على المنطقة، فإنه في التحليل النهائي ما زالت أزمة الهلال الخصيب قائمة، وما زال اللاعبون تقريبًا ذاتهم (فرنسا وبريطانيا وروسيا)، يضاف إليهم الدور الأميركي المنحسر والدور الإسرائيلي. ورغم ضخامة ما حدث، يمكننا القول إن الحرب العالمية الأولى لم تغير كثيرًا في عالم الشرق الأوسط، إلا في إطار ظهور القوميات وموجة الرغبة في الاستقلال. ولو عرفت أن بلدًا كمصر التي كافحت من أجل الاستقلال عن بريطانيا لم تضف شيئًا إلى خطوط السكك الحديدية من أسوان إلى الإسكندرية التي أنشأها الإنجليز، اللهم إلا خبرًا سمعته أخيرًا بأن الرئيس السيسي ينوي إصلاح محطة قطار أسوان، لسألت نفسك سؤالاً مفاده: لماذا كان الاستقلال؟ وما الذي أضافته الحكومات المحلية؟ استقلال ممّن؟ ولماذا؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمكن أن يفعله دونالد ترامب لمصر مثلاً، خيرًا أو شرًا؟ أو السؤال بشكل أوسع لماذا نقلق من ترامب إذا كانت حتى الحرب العالمية الأولى لم تغيرنا كثيرًا؟
ثم جاء حدث عالمي أكبر وهو حدث الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)؟ فماذا غيرت تلك الحرب الكبرى في الشرق الأوسط كي نقول إن ترامب يمكن أن يغير المشهد؟ باختصار مخل لم يكن للدول العربية موقف في الحرب العالمية الثانية، إذ حارب كل بلد مع المحتل له آنذاك، فالأردن ومصر حاربتا إلى صف بريطانيا، بينما انخرط العراق وبعض الشباب في منطقة الهلال الخصيب مع ألمانيا، ووقفت السعودية على الحياد تقريبًا. المهم أن الحرب جاءت وذهبت، وبعدها أعلن اليهود دولتهم وحارب العرب بعدها حرب 1948 من أجل فلسطين، واستمرت المأساة إلى 1967، حيث دخل العرب حربًا أخرى خسروا فيها أراضي في مصر وسوريا والأردن ولم يحققوا الكثير، فإذا كان الأمر كذلك من 1945 إلى 1967، فما الذي يخيفنا من ترامب؟ أو ما الذي يمكن أن يفعله ترامب أسوأ مما حدث في تلك الفترة؟
استمر العرب على جبهاتهم الثلاث في حرب استنزاف طويلة مع إسرائيل لست سنوات، ثم جاءت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي انتصر فيها العرب انتصارًا محدودًا، انتصارًا على الجبهة المصرية وخسارة على الجبهة السورية. استخدم العرب في تلك الحرب كل ما لديهم من أسلحة بما فيها سلاح النفط الناشئ، الذي أدى فيما بعد إلى ما عرف بالطفرة النفطية. طفرة أفادت الدول البترولية حديثة الاستقلال قليلة السكان.
منذ عام 1973 إلى أوائل التسعينات والعرب في لعبة إدارة الصراع وتحرير الأرض، حتى تم تحرير آخر شبر من الأرض المصرية في اتفاق التحكيم حول طابا 1989، وابتدأ عقد التسعينات، فأدخلنا صدام حسين في احتلال الكويت ثم تحريره، فما الذي يستطيع ترامب فعله أسوأ من ذلك؟
انتهت التسعينات وجاءت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين بأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، التي أدت إلى إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة موبوءة بالإرهاب، وبعدها حرب إنهاء نظام صدام حسين في العراق، وجاءت جحافل الأميركيين مرة أخرى، وصبت على العراق حممًا من النيران مما حولها إلى جحيم يجعل ما يحدث في سوريا والعراق اليوم، كأنها أمور صغيرة رغم بشاعتها. فما الذي يستطيع ترامب فعله أسوأ من حمم النيران التي حولت العراق إلى جهنم؟
ثم دخل علينا الربيع العربي بثوراته عام 2011، ثم بدأت الثورات المضادة، ودخلت الأوطان جهنم عدم الاستقرار، وتوغلت دول الجوار في بلاد العرب وتغولت، وأمامنا ما تقوم به إيران في سوريا واليمن بتدخلاتها بميليشياتها فيهما، فما الذي يستطيع ترامب فعله أسوأ من ذلك؟
قرن مرّ على العرب كما مرّ على غيرهم واشتكى العرب كثيرًا من التدخلات الخارجية والاستعمار على أنها أسباب تخلفهم، رغم أن ما حدث للعرب لا يعد شيئًا كبيرًا إذا ما قورن باستعمار بريطانيا للهند أو بمأساة السود، أو بقنبلة نووية أسقطت على اليابان، ومع ذلك نهضت الهند ونهضت اليابان بإرادة شعبيهما القوية.
لا يستطيع ترامب التأثير على الهند ولا اليابان، لأنهما قويتان، وأيضًا لن يستطيع أن يكون كارثيًا على العرب أكثر مما فعله العرب بأنفسهم.
ما زال يرن في أذني خبر أن مصر تنتوي إصلاح محطة سكة حديد أسوان التي بناها الإنجليز منذ قرن، فهل انحصرت صيحات الاستقلال في إصلاح محطة أسوان؟ وهل كل هذه التضحيات كانت من أجل تصليح محطة أسوان؟ لماذا كان الاستقلال إذن؟ فما الذي يستطيع ترامب فعله أسوأ مما فعلنا بأنفسنا؟ مَن يخاف من دونالد ترامب؟