خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الموسيقى في خدمة السياسة

تلعب الفنون الموسيقية دورًا أساسيًا في حياة الشعوب الأوروبية، واستخدمتها الدولة في كل المهمات خلال السلم والحرب. نجد مثالاً رائعًا لذلك فيما فعله الملك جورج الأول في بريطانيا. مرت إنجلترا بسلسلة من النكبات في القرن السابع عشر، منها حريق لندن الذي دمر العاصمة البريطانية وتلته موجة وباء الطاعون الذي أهلك مئات الألوف من السكان. ثم تفجرت الحرب الأهلية واستمرت عدة سنوات وأهلكت الضرع والزرع.
في عام 1714 توفيت الملكة آن دون أن تخلف أحدًا من سلالتها. كل أقارب العرش كانوا يدينون بالمذهب الكاثوليكي ويستبعدهم الدستور من العرش. الوريث البروتستانتي الوحيد كان دوق هانوفر في ألمانيا. اضطروا لدعوته ليتسلم العرش البريطاني. فعل ذلك ولكنه زاد الموقف تعقدًا. لم يكن يعرف من اللغة الإنجليزية غير القليل ولم تستهوهِ لندن، فكان يغادرها ويعود لألمانيا مرارًا ولمدد طويلة. وفي عهده تم توحيد ويلز واسكوتلندا وإنجلترا، وأطلق على البلاد «بريطانيا العظمى». وضاعف ذلك من متاعب الإدارة. شجع ذلك المعارضة للقيام بمحاولة انقلابية لم تنجح.
فطن جورج الأول لكل هذه المشكلات وراح يفكر في كيفية جمع الجمهور حول عرشه القَلِق ودعم هذا الاتحاد الجديد. وجد أن خير وسيلة لهذا الغرض الاعتماد على الموسيقى، فلا شيء يوحد الشعب ويجمع الشمل أكثر منها. كلف الموسيقار هاندل، وهو ألماني مثله، بتأليف أعمال تصب في محصلة الاتحاد والولاء للعرش. اهتدى هاندل لفكرة تأليف عمل موسيقي باسم «موسيقى الماء». تقوم بعزفه فرقة كبيرة على مركب يجلس في صدره الملك وحاشيته وحكومته، وينحدر على نهر التيمز من غرب لندن إلى شرقها بحيث يرى الجمهور هذا المشهد العجيب، ويستمع لهذه الموسيقى المؤثرة التي ضمت الكثير من الآلات النحاسية التي ترتبط أصواتها بالنظام الملكي والعرش والحماس الوطني. قامت موسيقى الماء بدورها واستمرت ليومنا هذا في إثارة مشاعر السامعين.
أردف هاندل هذا العمل بأعمال موسيقية وأوبرالية هزت مشاعر الجمهور، وغرست فيهم وحدة الولاء للعرش وقدمت في سائر القاعات الموسيقية الرئيسية. وجد أبناء الطبقة الوسطى ملاذًا لهم وميدانًا لعواطفهم تهدهد مشاعرهم نحو العرش.
يتفق النقاد على أن ما قام به هاندل وأتباعه قد ساهم في تثبيت العرش وإشاعة الاستقرار ولملمة الأطراف السياسية في بريطانيا بما فتح الأبواب لها، لتقوم بكل تلك الفتوحات الإمبريالية وإذكاء نيران الثورة الصناعية. فكان تبني اسم «بريطانيا العظمى» مطابقًا لواقع سياسي واستراتيجي عرفناه في كل طيات حياتنا السياسية.
بيد أن ما فعله هاندل راح يذكرني بما فعله محمد عبد الوهاب في عالمنا العربي. فعبد الوهاب وأم كلثوم استقطبا بصوتهما وأنغامهما الجماهير العربية من المغرب إلى المشرق وغرسا في نفوسنا مشاعر الوحدة والانتماء لهوية العروبة والتوجه نحو مصر.
وكانت هذه المشاعر وسحر ذلك الطرب عنصرًا كبيرًا في الانجراف نحو الحركات الوحدوية إلى حد المغامرة في الانسياق لها. ومن يدريني. ربما نحتاج لعبد الوهاب آخر يخلصنا من هذه الشقاقات والانشقاقات.