حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

الثري الذي ورثوه حيًا

الشيخ سليمان الراجحي فعلها، نسمع عن الأعطيات الجزيلة والهدايا الثمينة التي يهبها الأثرياء لأولادهم وزوجاتهم وأقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم، لكن ندر أن نسمع عن ثري وزع ثروته الضخمة على ورثته كما لو أنهم اقتسموها، واستثنى من ذلك ثلث ثروته التي جعلها وقفًا، وحقق بذلك غايتين رئيسيتين؛ الأولى إنجاز وقف خيري ضخم ليكون صدقة جارية في حياته وبعد مغادرته هذه الدنيا، الثانية: حماية وحدة أسرته من أن يفككها الخلاف والنزاع حول تفاصيل الميراث، وهو ما وقع للأسف مع عدد من الأسر الثرية التي لم يكتف بعضها بالتقاطع والتدابر والمرافعات القضائية المنهكة المكلفة، بل وصل في بعض الحالات إلى الفتنة ما بين الأقارب.
وليس صحيحًا أن الثروة الطائلة تجعل من الذي عمله الراجحي يسيرًا، بل هو قرار صعب بدليل أننا لا نعرف من عمل عمله، ولو وجد فهم ندرة جدًا، و«المال قسيم الروح»، كما يقول المثل الدارج، وروح التملك والتعب في الاستثمار ومراقبته والمحافظة عليه يجعل من الصعوبة على بعضهم، ولو كان يملك المليارات، أن يكون سخيًا في عطائه لأفراد أسرته ناهيك أن يقسم كل ثروته البلايينية الضخمة بينهم تقسيمًا تامًا كما فعل الشيخ سليمان الراجحي.
ولعل من أجمل ما أشار إليه الشيخ سليمان الراجحي في تبرير مبادرته اللافتة قوله: «أريد أن أكرم زوجاتي وأبنائي وبناتي حتى يسعدوا وينعموا بهذه الثروة أمام عيني»، وهذه غاية في النباهة والذكاء، فما الفائدة من حجز الثروة وحرمان الورثة منها بحجة أن الثروة آيلة إليهم على كل حال بعد وفاته، خاصة لمن عمر من الأثرياء؟ إن أشد أنواع الشعور مرارة حين يتسلل إلى بعض الورثة «المحرومين» شعور برغبة دفينة بوفاة والدهم الثري حتى يستمتعوا بالثروة من بعده، شعور مر ومخزٍ يعاود هجومه مهما حوقلوا واسترجعوا.
أحد المبررات التي ساقها الشيخ سليمان الراجحي لمبادرته الرائعة في توزيع كامل ثروته، وهي غاية في الأهمية والخطورة والتي سببت له قلقًا وهاجسًا ويغفل عنها الكثير من الأثرياء وغير الأثرياء، هو خشيته أن يتوفى أحد أبنائه وبناته قبله، فالنتيجة الحتمية حرمان المتوفى من أولاده وذريته من الإرث لأن أحكام الإرث تفرض حرمان أولاد الميت إذا كان للمتوفى صاحب الثروة أولاد، وقد حصل بالفعل أن أحفاد بعض الأثرياء أصبحوا من الفقراء بسبب عدم الالتفات إلى احتمالية وفاة ابن الثري أو بنته قبله.
ولعل إحدى جماليات تجربة الشيخ سليمان الراجحي هي في تغليفها بالروح الشورية، فلم يقدم على هذه الخطوة التي تتعلق بثروته البلايينية حتى عقد سلسلة من المشاورات مع زوجاته وأبنائه وبناته وأطلعهم على المحضر الذي كتبته اللجنة التي كلفت بتوزيع ثروته بينهم وبين الوقف الذي خصصه للأعمال الخيرية.
أسوق هذه التجربة الراجحية الإنسانية الرائدة لكي تكون نموذجًا يحتذى ليس للأثرياء والموسرين بل لكل من يملك ثروة صغرت أم كبرت. بطل هذه التجربة «إنسان» أثبت بالأرقام والوقائع تجرده وتميزه بتوزيعه «قسيم روحه» بين أسرته والوقف الخيري، فأسعد أسرته وهو حي وسد طرق الخلاف بينهم وترك وقفًا خيريًا ضخمًا أصوله أنجح شركاته وأكثرها نفعًا للمجتمع.