خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

رجال غرس الوطنية

في حديثي عن كليمنصو وديغول أتيت على رجال من قادة فرنسا تميزوا بتعلقهم بوطنيتهم ولغتهم وتراثهم، إلى حد الإسراف. أود أن أضيف لهم شخصية ثالثة.
اشتهر جورج بومبيدو بمثل هذا المنحى. الإنجليز يتفانون في خدمة وطنهم ولكنهم يكرهون الوطنية ويحتقرونها. يظهر أنهم يعتبرونها واجبًا ولا يليق بالمرء أن يتشدق بها ويتباهى. ألم يقل فقيههم، الدكتور جونسون: «الوطنية آخر ملاذ للحمقى». بيد أن الفرنسيين يتباهون بها. كذا كان جورج بومبيدو.
اشتهر بوطنيته وتمسكه بفصاحة اللغة الفرنسية. كثيرًا ما كان ينتقد الآخرين لاستعمالهم كلمات أجنبية، تمامًا مثل الدكتور مصطفى جواد عندنا. علق على ذلك أحد الظرفاء فقال: إنه على تمام الصواب. فهناك في الواقع كثير من الكلمات التي تستعمل كيفما اتفق. مثل: الجمهورية، النائب، التليفون، الأوتوستراد، التربية الوطنية، السنة الاجتماعية. الكلمة الصحيحة التي تجمع كل هذه الكلمات هي: سراب!
كان أديبًا وأستاذًا في الأدب الفرنسي، ثم تحول إلى السياسة بحيث أصبح رئيسًا للحكومة. بيد أن أدبياته طغت عليه ولازمته فكانت خطبه في المجلس قطعًا من الأدب. وله في ذلك كثير من الكلام، فهو الذي يقول: «هناك ثلاث طرق لجلب الدمار والفشل؛ المرأة والقمار والاعتماد على الخبراء!».
وفي مناسبة أخرى، علق على سقوط بعض زملائه من الحكم فقال: «الوزراء أشبه ما يكونون بفرسان سباقات الخيل (الجوكية) فهم لا يأبهون بأذى عندما يكبو حصانهم».
أخذ بومبيدو يسمن ويترهل في أواخر حياته. لفت نظره إلى ذلك زميله جيسكار ديستان وأسر إليه بسر عثر عليه في ملاحظة للكاتب الإنجليزي الذي قدم هذه النصيحة: «لا تجلس طويلاً في كرسي مريح. وعندما تأتي امرأة إلى المائدة فلا تنهض ببطء بل اقفز منتصبًا على قدميك. وفي كل مرة تنهض فيها من مكانك، انهض بسرعة وقوة. فذلك أفضل كثيرًا من التمرينات الرياضية».
استمع بومبيدو لكل ذلك النصح فقال: «والمهم أن تكون المرأة جميلة جدًا».
وحتى في المناسبات الرسمية، لم تغب روح السخرية عن هذا السياسي الفرنسي الشهير. ففي إحدى الحفلات التي عقدت في قاعة الشرف الكبرى في قصر الإليزيه، احتشد الضيوف وأخذ جميع الوزراء أماكنهم باستثناء وزير واحد ظل مقعده خاليًا. وفي اللحظة الحرجة وصل ذلك الوزير وهو يلهث تعبًا. وكان موريس شومان، وزير الأبحاث العلمية. وعندئذ تمتم بومبيدو: «كان لا يزال على ظهر القمر».
وحدث أن ذهب بومبيدو مع زوجته لمشاهدة فيلم جيمس بوند «العملية رعد»، الفيلم الذي يظهر فيه البطل وقد ثبت على ظهره محركًا صغيرًا، يمكنه من الحركة السريعة في أعماق البحار. وعندئذ لم يتمالك بومبيدو غير أن يتمتم: «آه. كم نحن بحاجة لمثل هذا الجهاز لنشق طريقنا في أعماق السياسة!».
وسمع أن وزير المالية قد أمر بوضع سرير في غرفة مجاورة لمكتبه، وقال عندما سألوه عنه إنه يحتاج إليه لأغراض العمل. ما إن سمع بومبيدو بذلك حتى قال لزملائه: «معلوم. الإنسان لا يستطيع أن ينام دون سرير».