محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

حديث المصاعد

من أشهر طرق إيصال المعلومات ببلاغة في أدبيات الإدارة ما يطلق عليه «حديث المصاعد». وهي تقوم على فكرة أنه إذا لم يستطع المرء التعبير عن نفسه في غضون 30 ثانية فقد يهدر فرصًا ثمينة لافتقاره لمهارة «حديث المصاعد».
الفكرة نابعة من فرضية أن الناس مشغولون في معترك الحياة، لكن يمكن للمتحدث الذكي أن يوصل ثلاث رسائل خاطفة وعفوية تشرح: من هو؟ ماذا يعمل؟ أو ماذا يقدم من خدمة أو منتج يستحق الاهتمام؟ والأهم أن يتمخض الحديث عن تواصل آخر، كلقاء أو تبادل بطاقات «البزنس كارد».
هذا النوع من الأحاديث ليس سهلاً كما يظن البعض؛ لأنه يحتاج كمية هائلة من العفوية والصبر، فقد تبتسم لشخصية مهمة تعمل في مبنى مقر عملك لأيام عدة، ثم تسنح لك لاحقًا فرصة التعريف عن نفسك. بعض ممن يتحلون بالذكاء الاجتماعي يسأل شخصًا يهمه: عن أي دور سيصعد إليه ليضغط له على الزر، ثم يقول مثلاً: نحن جيران إذن؟! أنا أعمل في القسم الفلاني حيث نفعل كذا وكذا. هنا إن تلاقت الاهتمامات سيبدأ الطرف الآخر تلقائيًا بالتعريف عن نفسه، وترتفع فرصة اللقاء خارج المصعد كأن توجه له دعوة لمقهى قريب للدردشة.
والمعضلة في المصاعد أن سرعاتها تختلف، فسنكون محظوظين في تبادل أطراف الحديث مع شخصية مهمة إذا هبط بِنَا المصعد من الدور الأخير لناطحة سحاب كبرج المملكة في الرياض إلى الطابق السفلي، لكن ليست المصاعد كلها تتمتع بهذه المدة الطويلة. والأمر ينطبق على خارج المصاعد، حيث الملهيات والانشغالات أكبر.
هنا أتذكر يوما التقيت فيه يابانيا ذكيا التقاني في زي رسمي، مع شخصين، ثم سألني عن مكان شركة، فوصفته له، ثم قال طواعية: «نحن شركة تصنع بطاريات الليثيوم التي تستخدمها في هواتفك الجوالة».
أثار اهتمامي معرفة مزيد عن هذا القطاع الواعد وفرص الاستثمار فيه، فطلبت بطاقته التعريفية، فأخرجها بحركة خاطفة من جيبه العلوي وكأنه كان جاهزًا للسؤال. هذا الشخص ختم «حديث مصعد» بتواصل فعلي لأنه كان ذكيًا في التعريف عن نفسه ببساطة لقيت اهتمامًا مشتركًا.
ولا ينطبق حديث المصاعد على البيع والشراء فهو يرتبط بِنَا كبشر نبحث عن فرص عمل أفضل، أو نبحث عن أشخاص معينين أو عن إجابات لأسئلة تحيرنا. أحيانًا نريد استقطاب شخص متفانٍ بالعمل زاملناه سابقًا بأن نقول له باختصار إن بيئة العمل الطاردة التي دفعتك للاستقالة لم تعد موجودة في المؤسسة الجديدة فما رأيك أن تفكر في الانضمام إلينا.
نحن في عصر صرنا أحوج ما نكون فيه لفضيلة اختصار الكلام، على طريقة حديث المصاعد لانشغال الناس، لا سيما أن ثلاثين ثانية كافية، كما نشاهد في وسائل التواصل الاجتماعي، لإبهار الناس أو إضحاكهم أو حتى إبكائهم! ويجب ألا نتوقع ردود فعل إيجابية في كل محاولة لأن الحياة سلسلة محاولات ستفلح إحداها يومًا ما.
عندما ندخل إلى المصعد لنتذكر أن الآلاف من الشخصيات المهمة أو الأصدقاء المحتملين قد يلجون فيه في أي لحظة لذا كانت الابتسامة أو البشاشة أول خطوة لتوليد الانطباع الأول وفتح حديث قصير نترقبه. ولو تخيلنا أن المصعد الواحد يحمل 6 أشخاص كل 5 دقائق يعني سيصعد إليه نحو 72 راكبًا خلال ساعة (6×12). ولو كانت الذروة أربع ساعات فسيدخله 288 يوميًا و105 آلاف سنويًا تقريبا. وهو كم هائل من البشر يدخلونه على مدار العام.
ولا نذيع سرا إن قلنا إن أعظم المشاريع والصفقات والعلاقات وربما الصداقات كان وراءها حديث عابر ترددنا في خوضه في المصاعد أو خارجها.
[email protected]