نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

فرصة اسمها دونالد ترامب؟.. ربما!

سيكون صعبًا البناء على تصريحات متفرقة للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، حول القضايا الدولية، لوضع تصور حول ما ستكون عليه السياسة الخارجية الأميركية في عهده.
لم تكن هذه الانتخابات حول السياسة الخارجية، وأسئلتها التي حضرت، لم تُعَالج بعمق يسمح بمعرفة دقيقة، أقله بالنسبة لترامب، الذي لا نعرف له مسؤولية تولاها، على أي من مستويات الحكم والإدارة داخل الدولة.
أما ما نعلمه من مواقفه فهو لا يرقى إلى أكثر من لمعات شعبوية وظيفتها خدمة التحريض على منافسته هيلاري كلينتون وسياسات سلفه الرئيس باراك أوباما، ومفاقمة الغضب عليهما.
هاجم الأقليات، الإثنية والدينية، ورفع سقف الاعتراض على قوانين الهجرة، واستثمر في ظاهرة القلق من الحركات الإسلامية المتطرفة داعيًا إلى «مكارثية» جديدة بحق المواطنين الأميركيين المسلمين. غازل الديكتاتوريات والأنظمة التسلطية وحكم كاريزما الرجل الواحد، فامتدح فلاديمير بوتين واستعاد ذكرى صدام حسين وأبدى إيجابية تجاه بشار الأسد وإعجابًا برجب طيب إردوغان، مدفوعًا بغريزة «رئيس مجلس الإدارة» أو «رئيس الشركة» وما يتيحه هذا المنصب من قدرة على سرعة المبادرة والقرار وعقد الصفقات!
لا شك أن انتخابه هو انتصار لعقيدة «الرجل القوي» في مقابل عجز مؤسسات الديمقراطية الليبرالية عن معالجة الأسئلة الاقتصادية والأمنية التي تقلق الناخب الغربي، في أوروبا وأميركا.
وهو انتصار أيضًا، لـ«الترامبية» كحركة كما سماها في خطاب الانتصار، بما هي يمين غير تقليدي، ثوري، صاحب شهية للاصطدام أولاً بالمؤسسات القائمة داخل أميركا وخارجها، والإجماعات التقليدية داخل الحزب الجمهوري. هو باختصار حصيلة خطاب يقوم على فوائض ثلاثة: فائض حمائي على مستوى الاقتصاد، لا سيما في الشق التجاري. وفائض انعزالي، شديد الحساسية حيال ربط المصلحة الأميركية المباشرة بمصالح أخرى حول العالم. وفائض قومي، يريد لأميركا أن تكون أولاً في أي قرار تتخذه الإدارة، مع ما يعنيه ذلك من تخفف من مسؤوليات الدور القيادي الأميركي.
وقد نجح في إدارة هذه الفوائض الثلاثة، باستراتيجية دعائية تقوم هي الأخرى على ثلاث آليات؛ الارتكاز إلى الحقائق البسيطة في عالم بالغ التعقيد، موصوف بالقلق والشك أكثر من وصفه باليقين. الخطاب الهجومي الرفضي الذي يتغذى من غضب الناخبين مما هو قائم أكثر مما يتغذى من رؤى الناخبين ورغباتهم الواضحة ببدائل محددة. وإحياء النوستالجيا والحنين إلى أميركا شبه متخيلة أو أميركا آفلة كانت ابنة ظرف عالمي واقتصادي وديموغرافي مختلف عما هو راهن عام 2016.
لكن كل هذا لا يوفر معطيات تساعد على فهم أو توقع سياسته الخارجية.
وكل هذا لا يجيب عن السؤال المركزي الذي لا بد من سبره وقد عبرت عنه كتابات أميركية قليلة حتى الآن.
هل كانت ولايتا باراك أوباما سببا في إضعاف أميركا، التي يريد ترامب إعادتها إلى العظمة، أم أن ضعف ولايتيه جاء ترجمة أمينة لتراجع دور أميركا في عالم تبدلت شروطه وتغير ميزان قواه وتعقدت صناعة القيادة العالمية فيه نتيجة أسباب اقتصادية وجيوسياسية وأمنية، لا يملك الرئيس الأميركي، أيًا يكن، أن يتحكم فيها وبنتائجها؟
هل تكفي إرادة الرئيس الأميركي وقراره لأن يفرض إعادة تقييم العملة الصينية كمدخل لتصحيح العجز التجاري مع الصين؟ هل يكفي الغزل بين ترامب وبوتين لفتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية بين موسكو المتوثبة في أوروبا والشرق الأوسط وبين واشنطن الفاقدة للمبادرة؟ هل تكفي التصريحات الغاضبة من التطرف الإسلامي لإحداث قطيعة مع العالم الإسلامي ودوله، كما بدا أن ترامب يرغب أو يريد؟
لا أعتقد ذلك. ولست مع التشاؤم من رئاسة هذا الآتي من خارج النادي السياسي الأميركي ومن خارج تقاليد ما يسمى «الصواب السياسي»، الذي بات ينظر إليه على أنه جزء من آليات النفاق التي تعتمدها النخب السياسية، فلا تسمي الأمور بأسمائها.
لقد طرح ترامب أسئلة جدية على نتائج الديمقراطية الليبرالية في العالم، وهز على طريقته الكثير من المسلمات في العلاقات الدولية الراسخة منذ انتهاء الحرب الباردة. خذ مثلاً تركيزه على رفض اتفاقيات تحرير التجارة في خطابه الانتخابي، وتنبه أنه يتحدث إلى مواطن أميركي وغربي بعد الانهيار الاقتصادي عام 2008، ما يقوله ترامب إن العقيدة التي تقول إن تحرير التجارة يؤدي حكمًا إلى تعميم الازدهار ليست حقيقة ثابتة، بدليل تراجع الأوضاع الاقتصادية للمزارعين والصناعيين الأميركيين، وهذا كلام ليس بعيدًا عن قناعات القاعدة الناخبة لترامب فرنسا، أي مارين لوبين.
وفيما يعنينا طرح أسئلة جادة حول التطرف وعلاقته بنا وبإسلامنا وكتبنا ومناهجنا وسياساتنا وحكوماتنا. قد لا يملك ترامب الأجوبة عن كل الإشكالات التي تصدى لها، والأكيد أنه لا يملكها، كما أنه لا يملك فهمًا دقيقًا لهذه الإشكالات لتحديدها وتأطيرها.
لكنه يملك من الحيوية والمفاجأة بحيث سيطرح على الجميع ضرورة أن يعيدوا النظر بثوابتهم وقناعاتهم وأسئلتهم. وكرجل أعمال سيكون جاهزًا لعقد صفقات مع من يملكون «بضاعة» جذابة. ترامب لن يحل مشاكلنا ولن يفاقمها لكن طاولته ستتسع لنا إن وضعنا عليها ما يلفت انتباهه، علما بأنه رجل يصعب إبهاره بالعادي والمكرر.