مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

هذا هو العدل

تصوروا ما سبب نزول هذه الآية الكريمة التالية: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا).
نزلت بسبب أن مسلمًا سرق درع مسلم آخر، وأراد إلصاق التهمة بيهودي بمعاونة قومه المسلمين. وكاد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يصدقه عندما حلف، لولا أن نزلت عليه آية أخرى جاء فيها (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا).
ولم تيأس عشيرة السارق وحاولوا الكذب على رسول الله، غير أن الوحي سرعان ما نزل عليه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إلا أنفُسَهُم وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
وغضب عليهم رسول الله بسبب تحيزهم وكذبهم وصلفهم، فنزلت بحقهم الآية التالية: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
فأي عظمة بهذا الدين الذي لا يفرق في سبيل الحق بين مسلم ويهودي، فليس كل المسلمين ملائكة، فبعضهم يستحق الضرب بالنعال لكذبه، وفي بعض غير المسلمين من يستحق الشكر لأمانته. هذا هو العدل الذي علمنا إياه الإسلام الحقيقي.
***
الصحابي الجليل (عمر بن الجموح) رضي الله عنه، كان شيخًا أعرجَ، وأراد أن يشترك مع الصحابة في معركة بدر.
وأتى أبناؤه الأربعة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يتوسلون أن يقنع والدهم بعدم الخروج، وفعلاً أخبره الرسول أن الإسلام في حالته تلك يعفيه من الخروج.
فقال: والله يا رسول الله، إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة.
وتحت إلحاحه وإصراره سمح له بذلك. وفعلاً ما هي إلاّ ساعة من احتدام المعركة، حتى جاءه ما تمناه، فقد زف الشهيد الأعرج إلى جنات الخلد، وفردوس النعيم.
***
جاء في الكتب أن عصر (المأمون) كان عصر توهج عقلي، وانفتاح حضاري على ثقافات العالم وفلسفاتها، ومرحلة اهتمام التلاقح الفكري بين المسلمين وأصقاع العالم، حتى أنه كان يطبخ مع ندمائه، فتفوح رائحة طبخه محملة بالطيب والعطر، فلما تزوج (بوران) اشتعلت بين يديها شموع العنبر ونثر على رأسها الدر، وكان ينضحها نضحًا بأنواع العطور المختلفة، وتطوف الجواري على رأسها بالمباخر المذهبة.
كل هذا كان يجري في قصره بعاصمة ملكه (بغداد)، التي قال عنها الشاعر:
تراها كمسك والمياه كفضة / وحصباءها مثل اليواقيت والدر - انتهى.
فأين بغداد اليوم من هذا الوصف؟!، حقًا أين هي؟!