توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الغنوشي المثير للجدل

لطالما كانت آراء السيد راشد الغنوشي مثيرة للجدل. من يريده أكثر ليبرالية ينتقد إصراره على استعمال اللغة الدينية في عرض مواقفه السياسية، ومن يتمنى بقاءه ضمن الحركة الإسلامية ينتقد توجهاته الحداثوية، التي تبدو أقرب إلى العلمانية منها إلى المألوف الديني.
الأحد الماضي كان مناسبة للتذكير بواحد من هذه المواقف الجدلية، حين قال على هامش اجتماع لقيادة حزب النهضة إنه «لا يمكن أن نكفّر الدواعش.. لا يمكن أن نكفّر أحدًا يقول لا إله إلا الله». وأضاف أن «داعش» هو صورة للإسلام الغاضب والخارج عن العقل.
في ظروف أخرى ستبدو المسألة عادية. لكن هذه التصريحات لا تؤخذ كتوصيف نظري مجرد، سيما بالنظر إلى الانعكاسات الشديدة للأزمة الليبية على الأمن في تونس. في مارس (آذار) الماضي احتل مقاتلو التنظيم مدينة بن قردان الجنوبية، فيما قيل إنه مقدمة لإعلان إمارة إسلامية في تونس. لحسن الحظ فإن سكان المدينة رفضوا وجود مقاتلي «داعش» بينهم، مما سهل على الجيش تطهيرها في بضعة أيام.
لا أحد اعتبر القضاء على مجموعة بن قردان نهاية لـ«داعش» التونسي. ثمة تقارير متطابقة تتحدث عن «آلاف» من الشباب التونسي في صفوف التنظيم، في العراق وسوريا وليبيا، الأمر الذي يؤكد وجود بيئة اجتماعية مناسبة للتنظيم في هذا البلد.
ومن هنا فإن وصفهم مسلمين خاطئين أو غاضبين فحسب، سوف تصنفه الأطراف المنافسة باعتبارها محاولة احتواء لأعضاء الجماعة المتطرفة، أو دعوة إلى اعتبارهم «طيفًا» داخل التيار الديني، وليسوا خوارج على الجماعة أو أعداء للمجتمع المسلم.
هناك بالطبع تساؤل جدي حول ملاءمة هذا النوع من التوصيف لزعيم حركة، سبق أن أعلنت في مايو (أيار) 2016 أنها تحولت إلى حزب سياسي حداثوي، وتخلت عن مهماتها الدعوية والدينية البحتة، رغم أن كثيرين يجدون صعوبة في فصل الغنوشي وحزبه عن تاريخهما الدعوي والديني. أيًا كان الأمر فإن تصريحات من هذا النوع الذي ينتسب عادة إلى المجال الديني البحت، سوف تعيد الالتباس بين السياسي والديني، وبين التراثي والحداثي، الذي كان يراد حسمه في إعلان مايو المذكور.
لكن - من ناحية أخرى - يمكن اعتبار ذلك التصريح مفيدًا في سياق إعادة توصيف المجال السياسي الإسلامي. نعلم بأن الجرائم البشعة لتنظيم داعش حملت جميع الجماعات الإسلامية على التبرؤ منه، كراهية لأفعاله أو تحاشيًا لتحمل تبعات نسبتها إلى التيار الديني ككل. هذا كله مفهوم، لكنه لا ينفع كثيرًا في تحديد موقع التنظيم داخل المجال الديني أو خارجه.
أقول: إن تصريح الغنوشي قد يكون مفيدًا، لأنه يعين ربما على تقبل فكرة أن المجال الديني ليس طيفًا واحدًا، وأنه ليس دار الحق والخير المطلق. بل هو - مثل كل مجال عقيدي أو سياسي آخر - متنوع ومتعدد المشارب والاتجاهات، فيه الأكثر اعتدالاً والأشد تطرفًا، وفيه التقليدي المتشدد إلى جوار المتحرر المعادي للتقاليد. المجال الديني هو مجتمع المسلمين، بكل ما ينطوي عليه من محسنين وآثمين. وهو لهذا السبب ليس معيارًا للحق ولا هو المثال الديني الكامل، بل بشر مثل سائر البشر، الذين يسعون للإحسان ما استطاعوا، فيصيبه بعضهم ويضل آخرون.
«داعش» وأمثاله من الجماعات المسلحة ليس تعبيرًا عن حقيقة الدين ولا عن حقيقة المجتمع الديني، بقدر ما هو تعبير عن هموم فريق في هذا المجتمع. قد نعتبرها نموذجًا مجسدًا للطيش والضلال. لكن لا أحد يدعي أن غيرهم ملائكة في ثياب البشر.