خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

طلب بسيط وبليغ

مرت مصر بعلاقات متقلبة مع الولايات المتحدة. ولكن في أوائل حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كانت هذه العلاقات ودية للغاية. وكثيرًا ما شوهد السفير الأميركي خارجًا من ديوان الرئاسة. وكان منها أن التقى السفير الأميركي في القاهرة المستر ريموند هير بالرئيس المصري في زيارة رسمية. أنهى المهمات العالقة بين البلدين ووقف استعدادًا للخروج. بيد أن الرئيس عبد الناصر استوقفه قليلاً وقال له، إن لديه الآن طلبًا شخصيًا بسيطًا يرجو أن يحصل عليه. سأله المستر هير، ما عسى أن يكون هذا الطلب الشخصي لرئيس الجمهورية.
أجابه عبد الناصر بأنه يرجو منه تزويده إن أمكن، بنسخة من نص الخطاب الأخير للرئيس جورج واشنطن. ما سمي بخطبة الوداع للرئيس واشنطن. استغرب السفير من هذا الطلب. وكان وجه الغرابة في الموضوع أن هذه الخطبة موجودة في كثير من الكتب، ولا سيما ما تعلق منها بتاريخ الولايات المتحدة أو بتطور الحياة البرلمانية والنظام الديمقراطي. كل ما لزم للرئيس عبد الناصر أن يطلب من سكرتيره أو أي موظف في ديوان الرئاسة أن يأتيه بكتاب يضم هذه الخطبة، خطبة الوداع.
راح المستر هير يفكر ويتأمل في الموضوع. لماذا طلب مني بالذات عبد الناصر هذا النص، وبإمكانه أن يحصل عليه من أي مكتبة. بل ولا بد أن تكون نسخة منه موجودة في مكان ما من القصر الجمهوري. انشغل فكر السفير الأميركي في الموضوع. وبالطبع كان أول ما فعله هو أن استحصل على نسخة من الخطاب وانكب على قراءته والتمعن فيه.
وفي لقاء ثان بين السفير والرئيس المصري، أخرج المستر هير النسخة المطلوبة من الخطاب وقدمها له. ولكن لاحظ عبد الناصر أن أحدًا ما قد أشر بقلم الرصاص على فقرة من ذلك الخطاب. ثم سأله السفير الأميركي: أيسمح لي سيادة الرئيس بأن أشير إلى فقرة في هذا الخطاب كانت قد لفتت انتباهك واهتمامك؟ ثم عرض عليه الفقرة المؤشرة بقلم الرصاص. هز عبد الناصر رأسه بالإيجاب: نعم كانت بالضبط محط اهتمامي. وكانت تلك الفقرة تقول:
«علينا أن نتوسع جهد الإمكان في علاقاتنا التجارية مع الدول الأجنبية. ونتحفظ جهد الإمكان في علاقاتنا السياسية. تجارة من دون أي حدود وسياسة في أضيق الحدود. يجب أن ندرك أن أوروبا لها مصالح أزلية لا يهمنا أمرها، أو ليس لنا بها علاقة. وهي كانت وستبقى ميدانًا لمنازعات متواصلة، لا يعنينا أمرها بأي حال من الأحوال.. وأسباب هذه المنازعات غريبة عنا كليًا. وليس من الحكمة أن نزج أنفسنا في شؤون مفتعلة وتقلبات سياسية لا علاقة لنا بها، وتجرنا إلى عداوات لا نرى لها أي مبرر».
أصبح واضحًا للسفير الأميركي، ولا بد أنه نقل ذلك لحكومته، أن مصر ستتحاشى زج نفسها في المنازعات الدائرة بين أوروبا الشرقية الشيوعية والدول الأوروبية الغربية الرأسمالية. وهو الأمر الذي دفع مصر للانضمام إلى كتلة عدم الانحياز ثم منظمة التضامن الأفريقي الآسيوي.